مقال

          الموظفون في الأرض … بل المعذبون في الأرض

جريدة الأضواء المصرية

هنا نابل / الجمهورية التونسية 

          الموظفون في الأرض … بل المعذبون في الأرض 

✍️ بقلم: المعز غني 

هم ليسوا مجرّد موظفين ، بل أسرى في سجن يومي لا أبواب له ولا قضبان … لكنّه يسلبهم الحياة وهم أحياء.

منذ أن تُعلّق على جدارهم تلك الورقة التي تُعلن قبولهم في الوظيفة ، تبدأ الرحلة … لا نحو الأمان ، بل نحو الإستنزاف البطيء.

يدخل الموظف مقر عمله كلّ صباح ، ولا يعلم أن عمره يُنتزع ورقةً ورقة.

ساعة بعد ساعة ، تتآكل الروح ، تذبل الأحلام ، ويُطوى الطموح كما تُطوى الملفات فوق مكاتبه القديمة.

تمرّ الأيام ولا تتغيّر سوى درجات الإجهاد على ملامحه ، في حين تبقى المرتبات في مكانها والمصاريف تركض نحو الأمام.

يرى الموظف الشمس من النافذة لا يلمس دفأها.

يسمع ضحكات المارّة ، ولا يشاركهم الفرح.

يمرّ العمر ، والمناسبات وأعياد الأطفال ، وأيام الربيع ، وهو خلف مكتبه يحصي ساعات الحضور و الإنصراف كما تُحصى سنوات النفي.

كم مرة حلم بتغيير؟

كم مرة فكر في المغادرة؟

لكنه خائف … خائف من البطالة – من المجهول – من اللقمة التي يقتات بها أطفاله.

وحده الموظف يعلم كيف يبتلع الألم ، ويبتسم في وجه المدير أو رئيسه المباشر في العمل …

وحده يعرف كيف يقمع غضبه حتى لا يُتَّهم بقلة الإنضباط.

يُمنع من الراحة إلا بإذن ، يُحاسب على كل دقيقة ، ويُطارد حتى في مرضه بشهادةٍ طبية تثبت ” صدقه “.

هل صار الصدق جرمًا يحتاج إلى إثبات …؟!

تُنهكه السلالم الوظيفية ، فيصعدها بتعب وكلّ درجة تُكلّفه عامًا من روحه.

تزيد الأوراق ، وتزيد الالتزامات لكن لا شيء يزداد في حسابه البنكي … فقط سنوات العمر.

وحين يُحال على التقاعد ، لا يُستبدل الضجيج بالراحة ، بل بالوحدة.

يستيقظ ذات صباح ، فيجد البيت خاليًا من ضجيج الأبناء …

ينظر إلى زوجته وقد غزا الشيب رأسها، ويهمس: “متى كبرنا؟”

لكن لا أحد يجيب ، فالحياة كانت تمضي هناك خارج الجدران الرمادية.

وفي لحظة تأمّل صامتة ، يدرك الحقيقة المُرَّة:

أن الوظيفة لم تكن حلمًا ، بل قيدًا.

وأن المرتب لم يكن مكسبًا بل مُسكّنًا لألمٍ لم يُعالج.

▪︎ الموظفون في الأرض… معذّبون في الأرض ▪︎

لكنهم لا يزالون يقاومون ، يبتسمون بمرارة ، ويأملون أن لا يعيش أبناؤهم ما عاشوه ، أن تكون الوظيفة يوماً كرامة ، لا عقوبة.

أن لا يُقاس الإنسان بعدد ساعات حضوره ، بل بما منحه من روح ، وصدق ، وإنسانية…

أنا واحد منهم قضيت في الوظيفة العمومية 39 سنة ولا زلت مواضب على شعلي إلى حد الآن. 

—–

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى