إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد لقد حذرنا الإسلام من المغالاه في الدين ومن تكفير أصحاب المعاصي والذنوب، لأنه يصل إلي حد الضلال، وإن التعبير عن ضلال أولئك التكفيريين والمتمثل فيما رتبوه من الأحكام المبتدعة على تكفير ولاة الأمر، وجماعة المسلمين اللائذة بهم، لإعتقادهم أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون بعبارة “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية” ليدل بما لا يدع مجالا للشك على أن مخالفة أولئك التكفيريين ليست هينة، بل هي عظيمة، لأنها مخالفة لمنهج أهل السنة في قواعد كلية، وخروج عن الجماعة في أصول مليّة.
إنها مخالفة تصيّر ما عند أولئك الغلاة خروجا عن الدين وتأمل قول النبي صلي الله عليه وسلم “من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه” وإن منشأ ذلك المروق من الدين إنما هو الغلو المنافي لمسلك الإعتدال، وإنما سماه النبي المصطفي صلي الله عليه وسلم مروقا تشنيعا به، وزجرا للناس عن أن يكونوا من أهله، وقد إستحق الغلو وصف المروق لما فيه من الإفساد للدين والإهلاك لأهله في الدنيا والآخرة، فقال رسول صلي الله عليه وسلم “إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين” وقال صلى الله عليه وسلم أيضا “هلك المتنطعون “ثلاثا” وقال الإمام النووي “قوله صلي الله عليه وسلم “هلك المتنطعون” أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم” وإن الغلو هو خروج عن الحدود التي أمر الله عز وجل بلزومها وحذر من تعديها، حيث قال تعالى ” تلك حدود الله فلا تعتدوها.
ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون” والحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة، المأمور بها وغير المأمور، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها، وهذا التعدي هو الهدف الذي يسعى إليه الشيطان، إذ إن مجمل ما يريده الشيطان تحقيق أحد الإنحرافين الغلو أو التقصير، فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلوّ، ودين الله تعالي وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، ذاك بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد، ولنتأمل اسم الإشارة في قوله تعالى ” فأولئك هم الظالمون” فإنه مقصود منه تمييز المشار إليهم أكمل تمييز، وهم من يتعدون حدود الله، إهتماما بإيقاع وصف الظالمين عليهم، وكفى الغلو قبحا أنه ظلم، وأن صاحبه ظالم بمجاوزته وتعديه لحدود الله.
وأضاف الله الحدود إليه تعظيما لها، وبيانا لعظيم شناعة مجاوزتها بسبب الغلو، ولا ريب أن الحكم بكفر الأفراد والمجتمعات غلو لأنه تعدّ لما لا يباح الخوض فيه إلا في أضيق نطاق، ولمن كان متأهلا من أهل الحكم والقضاء خاصة، وبأوضح البينات وأظهر الحجج، وذلك لخطورة ثمراته العملية، وآثاره الواقعية، إنه لو لم يكن في صفة الغلو من الشر إلا أنها مانعة من استحقاق شفاعة النبي صلي الله عليه وسلم يوم القيامة، لكانت كافية للإبتعاد عنها أشد الإبتعاد، والنفور منها أشد النفور، فقد ثبت عن النبي المصطفي صلي الله عليه وسلم أنه قال ” صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق” وإن من أعظم أسباب التكفير هو إتباع هوى النفس الموقع في إعتماد الظن، حيث قال تعالى ” إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى” والمتأمل في أحوال التكفيريين يجد أنهم لا يرجعون في أحكامهم على من كفروه إلى دليل صحيح.
كما لا يتجردون فيما يحكمون به للحق، وإنما يحملهم على ذلك الهوى، ومما يؤكد ذلك ويشهد له ما يعرف عنهم من شدة النفور من حملة العلم العارفين به، بل إنهم يكفّرون عموم مخالفيهم، بما فيهم علماء الملة الذين اعتبرهم الوحي ورثة النبي صلي الله عليه وسلم بدعوى أنهم علماء داخلوا السلطان، متناسين أن الله تعالي أمر كل المسلمين بالتعاون لإقامة الخير والصلاح، وإشاعة البر والفلاح، فقال تعالي ” تعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب” ولا شك أن الأمراء والعلماء أولى الناس بإمتثال هذا الخطاب بما يحقق مراد الله من تعاونهم، فهل يتصور هؤلاء أن السلطان لا ينبغي أن يـخالط؟ ولا ينبغي أن تمد له اليد لتحقيق التعاون