دراسات نقدية

مرايا العاطفة وتجليات الجسد

جريدة الأضواء المصرية

مرايا العاطفة وتجليات الجسد: قراءة تحليلية في نصوص “أنا” و”نشوة الأحلام” لأكرم يوسف أبومغيث

بقلم: [ربا رباعي]

مقدمة:

في دواوين الشعر المعاصر، تتلاقى التجربة الذاتية مع اللغة والإيقاع والتخييل السردي لتصنع فضاءً شعريًا متماسكًا. وفي نصوص الشاعر أكرم يوسف أبومغيث، ولا سيما في قصيدتيه “أنا” و”نشوة الأحلام”، نلحظ انسجامًا واضحًا بين الذات العاشقة واللغة كأداة تشكّل الهوية، وتنقل الإحساس بالجمال، وتعيد تشكيل العاطفة في صورة رمزية جمالية. يحضر في النصين بعد حسي وروحي في آنٍ واحد، وتنتقل القصائد بين الحضور والغياب، الشغف والانكسار، في لغة محملة بدفقات صوتية وصور شعرية متقنة.

أولًا: شعرية العنوان وأثرها في التلقي

“أنا”:

عنوان القصيدة يؤسس لحضور ذاتي مكثف، ويمنح القارئ انطباعًا فوريًا بأن النص سيكون تجربة شعورية عميقة. هذا التركيز على ضمير المتكلم يمنح النص بُعدًا تأمليًا، كما يعزز من خصوصية الخطاب العاطفي الذي يتمركز حول الأنا العاشقة والمأخوذة بجمال الآخر.

“نشوة الأحلام”:

هنا ينتقل العنوان من الذات إلى التخييل. “نشوة” كلمة مشحونة دلاليًا، ترتبط باللذة والحلم والانفلات من الواقع، وتوحِي بمزج ما هو حسي بما هو خيالي. وهي توحي أيضًا بتجاوز الذات إلى حالة وجدانية عليا، مشبعة بالرغبة والانجذاب.

خاتمة المحور الأول:

العناوين لدى أبومغيث لا تؤدي وظيفة تسمياتية فقط، بل تشكّل مدخلًا دلاليًا وتأويليًا، وتُبرز طبيعة التجربة الشعرية. العنوان يعكس جوهر النص ويضبط إيقاع القراءة منذ البداية، مما يدل على وعي الشاعر ببنية القصيدة كبناء دلالي تراكمي يبدأ من العتبة النصية.

ثانيًا: الإيقاع الصوتي والهوية الثقافية

يعتمد الشاعر على التفعيلة والإيقاع الداخلي، مع وعي كبير بتفاصيل الموسيقى الشعرية. يظهر تأثره العميق بالإرث العربي الكلاسيكي، حيث يحضر الوزن والقافية بانضباط ملحوظ، لكن دون أن يتحول النص إلى قوالب جاهزة.

في “أنا”، الإيقاع ينسجم مع شجن الذات العاشقة، ويظهر ذلك في استخدام المفردات الطويلة والمقاطع الصوتية ذات المد، والتي تعكس حالة من البوح والحنين.

في “نشوة الأحلام”، الإيقاع يتسارع أحيانًا، ويتباطأ أحيانًا أخرى، محاكيًا إيقاع الجسد في انفعاله ورغباته، مما يُجسّد هوية ثقافية تُمجّد الحواس في انسجام مع الروح.

خاتمة المحور الثاني:

الإيقاع في شعر أبومغيث ليس مجرد زخرفة موسيقية، بل يحمل أبعادًا ثقافية ونفسية. هو جزء من هوية النص، ومن جذور الشاعر اللغوية والثقافية، حيث يلتقي الموروث العربي بنبض الحداثة العاطفية.

ثالثًا: تأويل الخطاب السردي في القصيدتين

تتّخذ القصيدتان شكلًا سرديًا رغم كونهما نصوصًا شعرية، إذ تمرّ كل واحدة منهما بمراحل درامية: حضور/افتتان، انجذاب/ذروة، ثم غياب/ألم.

في “أنا”، يتجلى الخطاب في سردية وجدانية تبدأ من الإدهاش البصري، وتتحول إلى تعلق روحي وجسدي، وتنتهي بالغياب كحالة وجودية مؤلمة.

في “نشوة الأحلام”، السرد أكثر جسدية، حيث الجسد الأنثوي هو محور التجربة، ويصبح الحلم وعاءً لاحتواء الرغبة، بطريقة تُبرز التوتر بين الواقع والمخيلة.

خاتمة المحور الثالث:

الخطاب السردي لدى الشاعر يُقدِّم العاطفة بوصفها رحلة، ويمنح القصيدة بُعدًا دراميًا يتجاوز التصوير اللحظي إلى تشكيل خط زمني عاطفي. هو خطاب يجمع بين الغواية والانكسار، وبين سرد الذات واحتراقها في الآخر.

رابعًا: هندسة اللغة والجرس الصوتي وتأثيرهما في الإيقاع

يلجأ الشاعر إلى “هندسة لغوية” دقيقة، يتقن فيها توازن الجمل بين الطول والقِصر، وبين الجمال الظاهري والعمق الدلالي. تتكرر الحروف بطريقة مقصودة لتخلق موسيقى داخلية تُعزز البعد الحسي للنص.

في “أنا”، تتكرر الحروف الصفيرية (س، ش، ص) لتعكس صوت الألم والأنين. وفي “نشوة الأحلام”، نلحظ الأصوات الأنثوية الناعمه (ن، م، هـ، ل) التي تُشكّل امتدادًا للصورة المتناغمه والحس الانثوي في النص.

كما تتكئ اللغة على التوازي الصوتي والتكرار، مما يمنح النص بنية نغمية تتماهى مع المضمون العاطفي. لا تأتي الكلمات مصادفة، بل تُختار بعناية صوتية، وكأن الشاعر يعزف المعنى أكثر مما يكتبه.

خاتمة المحور الرابع:

الجرس الصوتي في شعر أبومغيث هو عنصر مركزي في تشكيل التجربة الشعورية. الكلمات تُبنى بصوتها قبل معناها، والإيقاع يتجسد كنبض داخلي للنص، يجعل القارئ يُحس بما يُقال، لا يقرأه فقط.

الخاتمة العامة:

في قصيدتي “أنا” و”نشوة الأحلام”، يقدم الشاعر أكرم يوسف أبومغيث نصين شعريين غنيين بالتجربة الشعورية، مزج فيهما بين الرغبة والحلم، وبين الصوت والمعنى. تتكامل شعرية العنوان مع بنية اللغة والإيقاع والخطاب السردي لتشكّل نصًا يُعبّر عن ذاتٍ تعيش الحب بكل تجلياته.

وتكشف القراءة عن شاعر يكتب من قلب الهُوية العربية، بلغة تَستحضر إرث الشعر القديم، لكنها تتّسع لتجربة حداثية لا تخجل من البوح، ولا تخاف من رسم ملامح الجسد والوجدان على حدٍّ سواء.

زر الذهاب إلى الأعلى