
رواية بورتريه لأبي العِلا البِشْري
بقلم/ أهداب حوراني
في عالمٍ تتماهى فيه الحدود بين العقل والجنون، تبدو المصحة النفسية في بورتريه لأبي العِلا البِشْري وكأنها انعكاسٌ مكثفٌ للواقع الخارجي، حيث تغدو الحقيقة هشّةً، متأرجحةً بين تأويلات متناقضة، كأنها مروحة تدور بلا نهاية.
الكاتب باهر بدوي لا يسرد حكايةً تقليدية، بل ينسج عالمًا متشظيًا، ينفتح على التأمل العميق، حيث يصبح الجنون قناةً لإدراك الحقيقة، لا انفصالًا عنها.
إبراهيم عيّاد، الشخصية المحورية في الرواية، يعيش قناعةً مفاجئة “الناس مراوح” تتردد هذه العبارة كصدى بعيد، تُلقي بظلالها على السرد، كأنها المفتاح السري لفهم الوجود داخل المصحة وربما خارجها، هنا تتحول المروحة من مجرد أداةٍ فيزيائية إلى استعارةٍ تُجسّد حالة الإنسان المسحوق، الذي يدور في فلك حياةٍ مسيرة، بلا إرادةٍ حقيقية تحت وطأة أنظمة اجتماعية ونفسية محكمة.
لكن، هل حقًا نُشبه المراوح؟ أم أن هذه القناعة ليست سوى صرخةٍ عبثية، تنطلق من عقلٍ مُنهك؟ هنا تتقاطع الرواية مع رؤى العبثيين أمثال كامو وسارتر، حيث لا ينفصل الوهم عن الواقع، وحيث تتلاشى اليقينيات في متاهة التساؤلات.
تقدم الرواية مجموعة من الشخصيات التي تمثل مستويات مختلفة من العبث الإنساني والسلطة والجنون:
إبراهيم عيّاد الفيلسوف المجنون الذي يرى ما لا يدركه العقلاء، يعاني من اضطراب نفسي لكنه يبدو أكثر وعيًا بالحقيقة.
سماح تسلُّخات التومرجية السلطوية والتي تمثل الفساد والاستغلال داخل النظام المغلق.
الدكتور سالم الطبيب الذي يسعى إلى فرض النظام، لكنه يفشل أمام عبثية المرضى، ليصبح جزءًا من الفوضى.
سعد التايكِ نموذج القامع الذي ينفذ الأوامر دون تفكير، الوجه القاسي للسلطة.
بهاء عصفور الساخر الذي يستخدم الضحك كوسيلة لمقاومة واقع لا يحتمل.
في هذا الفضاء المغلق، لا يكون المرضى مجرد شخصياتٍ ثانوية، بل يشكّلون مجتمعًا قائمًا بذاته، تحكمه قوانين غير مكتوبة، يتحول الأطباء إلى سلطةٍ قمعية، ويصبح المرضى أقرب إلى المتمردين أو الفلاسفة، الذين يعيدون إنتاج الواقع وفق رؤاهم الخاصة، وكأن المصحة ليست سوى انعكاسٍ مكثفٍ للعالم الخارجي، حيث تُمارَس السلطة بطرقٍ أكثر دهاءً، وحيث تُسلب الإرادة باسم النظام.
تعتمد الرواية على تفكيك السرد التقليدي، فلا تسلسل زمني واضح، ولا حبكة مغلقة.
الحوار يتنقل بين العامية والفصحى، في مزيجٍ يعكس تباين العوالم داخل النص.
اللغة في الرواية ليست أداةً وصفية فحسب، بل هي كيانٌ متحوّل، يعكس التوترات النفسية والوجودية للشخصيات.
أما على المستوى السردي، فإن النص يميل إلى تقنيات التداعي الحر، حيث تتداخل الذكريات مع الهواجس، ويتشابك الواقع مع الأوهام، فيخلق الكاتب حالةً من الارتباك المقصود، وكأنه يدعو القارئ للمشاركة في جنون النص، لا لمشاهدته من الخارج.
وهنا يحضرني تساؤل: هل يكون المجنون أكثر وعيًا بالعالم من العاقل؟ هذا السؤال الذي لطالما تردد في الفلسفات الوجودية يبدو حاضرًا بقوةٍ في الرواية، إبراهيم عيّاد رغم هلوساته يبدو الوحيد الذي يرى الحقيقة، بينما الأصحاء عاجزون عن إدراك عبثية الوجود، في هذا السياق يصبح الجنون ليس خللًا، بل استراتيجيةً دفاعيةً ضد واقعٍ أكثر جنونًا مما نتصور.
“بورتريه لأبي العِلا البِشْري” ليست رواية عن مصحة نفسية فحسب، بل هي نص يكشف عبثية الوجود، حيث تدور الحياة كما تدور المراوح، بلا يقين، بلا إجابة نهائية، هي عمل يضع القارئ في مواجهة سؤال وجودي صادم: من هو المجنون الحقيقي، نحن أم مَن نعتبرهم مرضى؟
لكل من يبحث عن رواية تتحدى الإدراك وتثير الأسئلة، فإن “بورتريه لأبي العِلا البِشْري” هي الخيار الأمثل.