مقال

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 2”

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 2”

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثاني مع يحيى بن خالد البرمكي، فقال هشام قال فنظرت فإذا أنني قلت بأن عليا رضى الله عنه، كان مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي وإن قلت أن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي، ووردت عليّ مسألة لم أكن سُئلت عنها قبل ذلك ولا أعددت لها جوابا، فذكرت قول أبي عبد الله الصادق رضى الله عنه، وهو يقول لي يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، فعلمت أني لا أخذل وعن لي الجواب فقلت له لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة نبى الله داود عليه السلام، حيث يقول الله عز وجل ” وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب” الى قوله “خصمان بغى بعضنا على بعض” فأي الملكين كان مخطأ وأيهما كان مصيبا ؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين.

 

فجوابك في ذلك جوابي بعينه، فقال يحيى لست أقول إن الملكين أخطأ، بل أقول إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة، ولا اختلفا في الحكم، وإنما أظهرا ذلك، لينبها داود عليه السلام، على‌ الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه، فقال هشام كذلك عليّ والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته، ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين، فلم يحر يحيى جوابا، واستحسن ذلك الرشيد، وقد توفي خالد بن يحيى البرامكى في سجن مدينة الرقَة سنة مائة وتسعين من الهجره، وله من العمر سبعين سنة، وقد قيل أنه كان يحيى بن خالد البرمكى من أكمل زمانه أدبا وفصاحة وبلاغة.

 

وقد روي عنه أنه قال ما رأيت رجلا قط إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان فصيحا، عظم في صدري، وإن قصر سقط من عيني، وقد أورد الجهشياري بعض المآثر من كلام يحيى، مثل قوله التعزية بعد ثلاث تجديد للمصيبة والتهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، وقال رسائل المرء في كتبه أدل دليل على مقدار عقله، وأصدق شاهد على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة، وقوله مطلك الغريم أحسن من مطلك الكريم، لأن الغريم لا يسلف إلا من فضل، والكريم لا يطلب إلا من جهد، وقوله البلاغة أن تكلم كل قوم بما يفهمون، وقوله لو كلف الله العباد الجزع دون الصبر كان قد كلفهم أشد المعنيين على القلوب، وعندما سجن يحيى وجه إلى الرشيد رسالة استعطاف بليغة وقال فيها من الحبس لأمير المؤمنين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين.

 

من عبد أسلمته عيوبه وأوبقته ذنوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وزال به الزمان ونزل به الحدثان وحلّ به الضيق بعد السعة والشقاء بعد السعادة وعالج البؤس بعد الدعة ولبس البلاء بعد الرخاء وافترش السخط بعد الرضى واكتحل السهود وفقد الهجود، ساعته شهر وليلته دهر، وقد عاين الموت وشارف الفوت، جزعا يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك من موجدتك وأسفا على ما حرمته من قربك لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال إنما كانا لك وعارية في يديّ منك، والعارية لا بد مردودة، فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه فإنما كان عبدا من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله ولا كان مع ذلك بقاؤه أحبّ إلي من موافقتك، فتذكّر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك وحجب عني فقدك.

 

كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك عني ولتمل إليّ بغفران ذنبي، فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني ورحمتك لي، زاد الله في عمرك يا أمير المؤمنين وقدمني للموت قبلك، وكان جعفر بن يحيى من ذوي الفصاحة والمذكورين باللسن والبلاغة، قال عنه ابن خلدون وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قيل إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار، وهكذا كان شأن الدول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى