
الدكروري يكتب عن الإمام ابن نباتة ” جزء 1″
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الإمام ابن نباتة هو الإمام البليغ الأوحد، خطيب زمانه أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الفارقي، صاحب الديوان الفائق في الحمد والوعظ ، وكان خطيبا بحلب للملك سيف الدولة، وقد اجتمع بأبي الطيب المتنبي، وكان فصيحا مفوها بديع المعاني وجزل العبارة، ورزق سعادة تامة في خطبه، وكان فيه خير وصلاح ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه، ثم استيقظ وعليه أثر نور لم يعهد قبل فيما قيل، وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوما، وتوفاه الله ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفل في فيه، وبقي تلك الأيام لا يستطعم بطعام ولا يشرب شيئا، وتوفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بميافارقين، وقيل لم يل خطابة حلب إلا بعد موت سيف الدولة بن حمدان وبلغنا أن عمره لم يبلغ الأربعين بل عاش تسعا وثلاثين سنة، ولم يصح ذلك فإنه ابتدأ بتصنيف خطبه في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وهو إذ ذاك خطيب مميز.
وجالس المتنبي فلعله عاش خمسين سنة أو أكثر، وقيل أن لأبيه رواية، وأما عن إبن نباتة المصري، هو محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي الفارقي المصري، أبو بكر، جمال الدين، ابن نباتة وهو شاعر، وكاتب، وأديب، ويرجع أصله إلى ميافارقين، ومولده ووفاته في مدينة القاهرة، وهو من ذرية الخطيب عبد الرحيم بن محمد بن نباتة، ولقد سكن الشام سنة سبعمائة وخمسة عشر من الهجرة تقريبا، وتولي نظارة القمامة في مدينة القدس أيام زيارة المسيحيين لها، فكان يتوجه فيباشر ذلك ويعود، ورجع إلى القاهرة سنة سبعمائة وواحد وستين من الهجرة، فكان بها صاحب سر السلطان، وله ديوان شعر وسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون وغيرها، وكان شاعرا ناظما له ديوان شعر كبير مرتب حسب الحروف الهجائية وأشهر قصيدة له بعنوان سوق الرقيق، وله العديد من الكتب منها كتاب سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.
وكتاب تلطيف المزاج في شعر ابن الحجاج، وكتاب مطلع الفرائد، وسير دول الملوك وغيرها، وفي نطق اسمه خلاف بين العلماء، فقد ذهب ابن منظور صاحب ليان العرب إلى أنه نباتة بفتح النون، وذهب آخرون كالفيروز آبادي صاحب القاموس والإمام الجلال السيوطي إلى أن اسمه نُباتة بضم النون، وأصله من ميافارقين ولذلك يقال له الفارقي نسبة إلى مدينتهم الأم ميافارقين، وهو الشاعر المعروف والكاتب البليغ جمال الدين محمد بن محمد الجذامي المصري، كنيته أبو بكر، وعاش في أيام المماليك وكان أشعر شعراء مصر في زمانهم، وولد في القاهرة سنة ستمائة وست وثمانين من الهجرة، ونشأ فيها، وفيها تلقى التعليم والأدب، وأكبّ على قراءة الشعر وخصوصا شعر القاضي الفاضل، فقالوا إنه قد أخذ منه طريقته في التورية والتلميح والطباق، وقيل إنه لم يأتي بعده من شعراء مصر والشام من وصل إلى ما وصله ابن نباتة من غاية اللطف.
في التصوير ورقة الألفاظ وانسجام العبارات، وقد مات في القاهرة أيضا كما ولد فيها، وذلك سنة سبعمائة وثماني وستين من الهجرة، وإن حياة ابن نباتة يمكن بسهولة تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، وهما قسمان في مصر، وقسم في الشام بين دمشق وحماة وأحيانا في حلب، ولعل أغزر تلك المراحل هي مرحلة إقامته في الشام، وقد بدأت مواهب ابن نباتة تتفتح وتكبر وهو بعد في ريعان شبابه في نحو عمر الرابعة عشرة، فصار ينظم الشعر ويقوله إلى أن تمكن منه واجتمعت له أسبابه، فبقي في مصر إلى أن أتم ثلاثين عاما، كان منها عشرون عاما في عهد الناصر محمد بن قلاوون، وبعد أن أتم الثلاثين سافر إلى الشام مُحملا بثقافته المصرية، وحاملا معه صيته الذي ذاع في مصر وتجاوزها إلى الشام، فكانت له مكانة مرموقة بين شعراء عصره، ولما بلغ الشام بلغها وهو شاعر تام الآلة بارع في فنه، ولذلك فقد بلغ له مكانة عالية عند علماء الشام آنذاك.
كتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين السبكي والقاضي ابن صصري وابن الزملكاني شيخ الشافعية في ذلك الوقت، إذن فابن نباته هو نتاج ثقافة مصرية قد انتقل إلى الشام سنة سبعمائة وستة عشر وهو في الثلاثين من العمر، وفي الشام وجد الشاعر ابن نباتة ذاته وحقق كثيرا مما يصبو إليه فمدح الملوك والوزراء والقادة والأعيان والوجهاء وغيرهم، ونال هنالك الحظوة والمكانة العالية الرفيعة متسلحا بشعره ونثره العاليين، وقد صار يتردد على بلاط الملك المؤيد في حماة وأكثر من مديحه، وبعد وفاته وتولي ابنه الأفضل مكانه بقي يمدحه، ولكن الأفضل تزهد ولم يعد له حاجة بمديح الشعراء، فترك ابن نباتة مديحه، وبعدها انتقل إلى القدس الشريف وصار ناظرا على كنيسة القيامة، وكان من الذين يصنعون علاقات متينة ولا يقطعونها فكان على صلة بالشهاب محمود كاتب العصر المملوكي الأشهر.