مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن هبيرة ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن هبيرة ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام إبن هبيرة، ورأيت أنا وقت الفجر كأني في دار الوزير وهو جالس، فدخل رجل بيده حربة، فضربه بها فخرج الدم كالفوارة فالتفت فإذا خاتم ذهب، فأخذته، وقلت لمن أعطيه ؟ أنتظر خادما يخرج فأسلمه إليه، فانتبهت فأخبرت من كان معي، فما استتممت الحديث حتى جاء رجل فقال مات الوزير ، فقال رجل هذا محال أنا فارقته في عافية أمس العصر، فنفذوا إلي وقال لي ولده لا بد أن تغسله، فغسلته ورفعت يده ليدخل الماء في مغابنه، فسقط الخاتم من يده حيث رأيت ذلك الخاتم ورأيت آثارا بجسده ووجهه تدل على أنه مسموم وحملت جنازته إلى جامع القصر، وخرج معه جمع لم نره لمخلوق قط، وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر والعدل ورثته الشعراء، ومن صور تواضعه ما يحكيه صاحب سيرته أبو بكر التيمي مما شاهده بعينه في مجالس ابن هبيرة.

 

أن الحاجب أبا الفضائل بن تركان أسرّ للوزير بشيء لم يسمعه أحد، فقال له الوزير أدخل الرجل؟ فأبطأ، فسأله فقال الحاجب إن معه شملة صوف مكورة، وقد قلت له اتركها مع أحد الغلمان خارجا عن الستر وادخل، قال لا أدخل إلا وهي معي، فقال له الوزير دعه يدخل وهي معه، فخرج وعاد، وإذا معه شيخ طوال من أهل السواد، عليه فوطة قطن وثوب خام، وقال للوزير يا سيدي، إن أم فلان يعني أم ولده لما علمت أني متوجه إليك قالت لي بالله سلم على الشيخ يحيى عني، وادفع إليه هذه الشملة، قد خبزتها على اسمه، فتبسم الوزير إليه وأقبل عليه، وقال الهدية لمن حضر، وأمر بحلها فحلت الشملة بين يديه، فإذا فيها خبز شعير، فأخذ الوزير منه رغيفين، وقال هذا نصيبي، وفرق الباقي على من حضر من صدور الدولة، والسادة الأجلة، وسأله عن حوائجه جميعها، وتقدم بقضائها في الحال، ثم التفت إلى الجماعة، وقال هذا شيخ قد تقدمت صحبتي له قديما، واختبرته في زرع بيتنا فوجدته أمينا.

 

ويعقب صاحب سيرته، فيقول ولم يظهر منه تأفف بمقال الشيخ، ولا تكبر عليه، ولا أعرض عنه، بل أحسن لقاءه، وقضى حوائجه، وأجزل عطاءه، ومن صور شجاعته أنه حضر يوما في دار الخلافة، وحضر أرباب الدولة جميعا للصلاة على جنازة الأمير إسماعيل بن المستظهر، فسقطت من السقف أفعى عظيمة المقدار على كتف الوزير، فما بقي أحد من أرباب الدولة وحواشي الخدمة إلا خرج أو قام عن موضعه إلا الوزير، فإنه التفت إلى الأفعى، وهي تسرح على كمه حتى وقعت على الأرض، وبادرها المماليك فقتلوها، ولم يتحرك الوزير من مكانه، ولا تغير في هيئته ولا عباراته، ومن صور الصبر على المصيبة، واحتساب الأجر عند الله والحرص على متابعة مجلس الحديث أن المجلس كان غاصا بولاة الدين والدنيا والأعيان الأماثل، وابن شافع يقرأ الحديث، إذ بصراخ بشع.

 

وصياح يرتفع من باب الستر وراء ظهر الوزير، واضطرب المجلس وارتاع الحاضرون، والوزير ساكن ساكت، حتى أنهى ابن شافع قراءة الإسناد ومتنه، ثم أشار الوزير إلى الجماعة على رسلكم أي استأذن، ثم قام ودخل إلى الستر ولم يلبث أن خرج، فجلس وتقدم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون وقالوا قد أزعجنا ذلك الصياح، فإن رأى مولانا أن يعرفنا سببه، فقال الوزير حتى ينتهي المجلس، وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابت الشمس وقلوب الجماعة متعلقة بمعرفة الحال، فعاودوه فقال كان لي ابن صغير مات حين سمعتم الصياح، ولولا تعين الأمر بالمعروف في الإنكار عليهم ذلك الصياح، لما قمت عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب الحاضرون من صبره، وكما أن من صور عفوه عند المقدرة، أنه قدم رجل ومعه آخر ادعى عليه أنه قتل أخاه، فقال له الوزير أقتلته؟

 

قال نعم جرى بيني وبينه كلام فقتلته، فقال الخصم سلمه إلينا حتى نقتله فقد أقر بالقتل، فقال عون الدين أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا كيف ذلك، وقد قتل أخانا؟ قال فتبيعونيه؟ فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلم الذهب إليهم وذهبوا، وقال للقاتل اقعد عندنا لا تبرح، قال فجلس عندهم، وأعطاه الوزير خمسين دينارا، ويقول ابن الجوزي فسألنا الوزير لقد أحسنت إلى هذا، وعملت معه أمرا عظيما، وبالغت في الإحسان إليه، فقال الوزير منكم أحد يعلم أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئا؟ فقلنا معاذ الله، فقال بلى والله، أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا لا، قال هذا الذي خلصته من القتل جاء إليّ، وأنا في الدور، ومعي كتاب في الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة فاكهة، فقال احمل هذه السلة، فقلت له ما هذا شغلي، فاطلب غيري، فشاكَلني ولكمني، فقلع عيني، ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فذكرت ما صنع بي.

 

فأردت أن أقابل إساءته إلي بالإحسان مع القدرة، وقيل أن الوزير ابن هبيرة قد سُقي السم، وقيل لعل بعض أهل الشر الذين ما راق لهم وجود هذا الرجل العادل في هذا المكان، وكيف كانت سيرته، وأنه ربما نغص عليهم وحرمهم من أشياء بسبب أنه كان لا يبعثر الأموال، ولا يرشي، ولا يرتشي، ولا يعطي من لا يستحق، فمثل هذا الرجل لا يطول به المقام، مثل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز حكم سنتين، وسُقي السم، فمات مسموما، وكذلك عمر بن عبد العزيز لم يصبر عليه بنو عمه بنو أمية، كيف يفعل هذا العدل ويحرمهم من الأشياء والمزايا، ويبدو أن الوزير كان له من يترصد له، وكان يتأسف على دخوله الوزارة، ويرجو السلامة، والنجاة مما دخل فيه، وأنها ندامة يوم القيامة، وكان يخشى الله، فكان يكثر التأسف على دخوله فيها، ثم صار يسأل الله الشهادة ويتعرض لأسبابها.

 

فحصل له في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة خمسمائة وستين من الهجرة، حيث نام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السحر قاء أي حصل له قيء فحضر طبيب، فسقاه شيئا، فقيل إنه سمه، سقاه سُما على أنه دواء، وسُقي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سُما أيضا، فكان يقول سُقيت كما سقيت، فمات الطبيب أيضا، وحُملت جنازة ابن هبيرة يوم الأحد إلى جامع القصر، وصُلي عليه، ثم حُمل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصرة، فدُفن بها، وغلقت يومئذ أسواق بغداد ، وخرج جمع لم يري لمخلوق قط، في الأسواق وعلى السطوح، وشاطئ دجلة، وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر ويظهره من العدل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى