في زحمة الليالي الطويلة، حين يلفّ الصمت المكان ويغيب الضوء خلف ستار من الشوق، يولد الحنين كحقيقة لا مفر منها. هو ليس شعورًا عابرًا، بل ظلٌّ يلازم القلب، يمتدّ معه ويكبر، حتى يتحوّل إلى نبضٍ ثانٍ لا يُسمع، لكنه يُشعر بكلّ قوة.
“ظلّ الحنين” ليس مجرد تعبير شاعري، بل هو واقع يعيشه كل من فارق من يحب. هو الامتداد الحزين لذاكرة لم تعد تملك سوى الوجع، والملاذ الوحيد لروحٍ تائهة بين حاضرٍ صامت وماضٍ يصرخ بصوت الأحبّة الراحلين. حين يغيب من نحب، لا نبحث عنهم في الأمكنة فقط، بل نصير نفتّش عنهم في تفاصيلنا، في لحظات الصمت، في الهواء الذي نتنشقه، وفي ضوء شمسٍ يبدو باهتًا من دونهم.
تسكن الذكرى قلب المحب كما يسكن الوطن قلب المغترب، فالفقد لا يُنسى، والقلوب التي عاشت الحبّ بصدق لا تتعلم الخيانة، ولا تعرف طريقًا للنسيان. تصبح الحياة سلسلة من المحاولات اليائسة للفرار من تلك الذكرى، لكن كل الطرق تعيدنا إليها، إلى ذلك الحلم الذي سكننا وأبى أن يموت.
وما أصعب الحبّ حين يصبح قيدًا لا يُرى، حين تتعلّق الروح بروحٍ أخرى غادرت، وتبقى معلّقة بين السماء والأرض، لا تعرف الاستقرار، ولا تجد سكينة. فهل للحنين نهاية؟ وهل يمكن لذاكرة القلب أن تنسى ملامح من أحبته يوماً بكل كيانه؟
ربما لا، وربما كان الجواب الأصدق أن هناك حبًا لا يزول، وغيابًا لا يُعوّض، وذكرى لا تموت. ويبقى الانتظار فعلًا من أفعال الحبّ، ولو طال، ولو أوجع، فالحبّ الحقيقي لا يعرف المدى، ولا يتقيد بزمان.
على حافة الذكرى نقف، نتأمل الغياب، ونرتق بثنايا قلوبنا بعضًا من الدفء الذي تركوه، نُراهن على العودة، حتى لو صارت مستحيلة، لأن بعض الأمل… يكفينا لنعيش.