الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم كيف شاء عزة واقتدارا، وأرسل الرسل إلى الناس إعذارا منه وإنذارا، فأتم بهم نعمته السابغة وأقام بهم حجته البالغة، فنصب الدليل وأنار السبيل وأقام الحجة وأوضح المحجة، فسبحان من أفاض على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة، أحمده والتوفيق للحمد من نعمه وأشكره على مزيد فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة ونصبت القبلة ولأجلها جردت سيوف الجهاد وبها أمر الله سبحانه جميع العباد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعالمين، أرسله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأمده بملائكته المقربين وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين.
أفضل من صلى وصام وتعبد لربه وقام ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام، ثم أما بعد إن الأمة الجاهلة تضيع مجدها وتزري بقيمتها بين الأمم، ومهما حقق الناس والأمم والأفراد من مرابح دنيوية في جوانب المال والمناصب والنفوذ والصيت الإجتماعي مع فقد العلم الذي يكسب الأدب والود الصادق مع أفراد المجتمع فإن هذا المجد الكذوب يؤذن على الدوام بوداع والمسألة تعتمد على الوقت في بيان هذه الحقيقة، والفرد الجاهل تابع على الدوام لترهات عقله أو نقص تفكيره أو هوى نفسه، ما يكاد يستوى قائما من بلوى حتى يقع في غيرها لأنه لا يعيش حياته على هدى ولا بصيرة، وتخيل الشخص الجاهل والذي يمثل جراب المال المنتفخ في منطقه وسكوته وأفراحه وأتراحه ورضاه وغضبه، تجده عورة مجتمعية يتمنى الجميع أن يسترها الله.
وإنه تستمد المدينة المنورة أهميتها من هجرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إليها وإقامته فيها طيلة حياته الباقية، فالمدينة هي أحد أبرز وأهم الأماكن وتسمى السور القرآنية التي نزلت بعد الهجرة إليها بالسور المدنية، ومفردها “سورة مدنية” وتضم المدينة بين أحضانها الكثير من المعالم والآثار، ولعل أبرزها المسجد النبوي والذي يُعد ثاني أقدس المساجد بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، بالإضافة إلى مقبرة البقيع والتي تعد المقبرة الرئيسية لأهل المدينة، والتي دُفن فيها الكثير من الصحابة، ومسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام، ومسجد القبلتين، وجبل أحد، والكثير من الوديان والآبار والشوارع، والحارات والأزقة القديمةن ويرجع تاريخ تأسيس يثرب إلى حوالي ألف وستمائة سنة قبل الهجرة النبوية، اعتمادا على أن قبيلة عربية تسمى “عبيل” قد تكلمت بالعربية،
وأن اللغة العربية وُجدت في ذلك التاريخ، وإن أقدم النصوص التاريخية التي أشارت إلى المدينة هي النصوص الآشورية العائدة للقرن السادس قبل الميلاد، التي أشارت إلى المدينة باسم “لاثريبو” كذلك فقد وجدت فيه كلمة “يثرب” في الكتابات التاريخية عند الأغريق، فقد أشار كلاوديوس بطليموس إلى واحة تقع في بلاد الحجاز بشبه الجزيرة العربية، تحمل اسم “لاثريبا” كما ورد هذا الاسم في الكتابات عند مملكة معين وذكرت بين المدن التي سكنتها جاليات معينية، ومن المعروف أن المملكة المعينية قامت في جزء من اليمن في الفترة، ما بين ألف وثلاثة مائة وألف وستمائة قبل الميلاد، وقد امتد نفوذها في فترة ازدهارها إلى الحجاز وفلسطين، وعندما ضعف سلطانها كونت مجموعة مستوطنات لحماية طريق التجارة إلى الشمال وكان هذا الطريق يمر بيثرب.
ويتفق هذا التاريخ التقريبي أيضا مع تاريخ وجود العماليق وحروبهم مع بني إسرائيل في شمال الجزيرة العربية وسيناء، وقد تعاقب السكان على يثرب منذ إنشائها، فقد سكنها العماليق، ومن بعدهم قبائل المعينيين من اليمن ومن ثم اليهود، وقد وصل اليهود إلى يثرب لأول مرة خلال القرن الثاني الميلادي خلال الحروب الرومانية اليهودية في فلسطين، التي كان من نتيجتها نزوح عدة قبائل يهودية إلى الأقاليم المجاورة.