مقال

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 4”

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 4”

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الرابع مع يحيى بن خالد البرمكي، وجرت بينهما في ذلك خطوب طويلة، وأشفى يحيى معه على الهلاك، وهو مقيم على مدافعته عن صاحبه، إلى أن اعتل الهادي علته التي مات منها، واشتدت به، فدعا يحيى وقال له ليس ينفعني معك شيء، وقد أفسدت أخي علي، وقويت نفسه حتى امتنع مما أريده، ووالله لأقتلنك، ثم دعا بالسيف والنطع وأبرك يحيى ليضرب عنقه، فقال إبراهيم بن ذكوان الحراني يا أمير المؤمنين إن ليحيى عندي يدا، أريد أن أكافئه عليها، فأحب أن تهبه لي الليلة، وأنت في غد تفعل به ما تحب، فقال له ما فائدة ليلة، فقال إما أن يقود صاحبه إلى إرادتك يا أمير المؤمنين، أو يعهد في أمر نفسه وولده، فأجابه، قال يحيى فأقمت من النطع، وقد أيقنت بالموت، وأيقنت أنه لم يبق من أجلي إلا بقية الليلة، فما اكتحلت عيناي بغمض إلى السحر.

 

ثم سمعت صوت القفل يفتح علي، فلم أشك أن الهادي قد استدعاني للقتل، لما انصرف كاتبه، وانقضت الليلة، وإذا بخادم قد دخل إلي، وقال أجب السيدة، فقلت ما لي وللسيدة، فقال قم، فقمت وجئت إلى الخيزران فقالت إن موسى قد مات، ونحن نساء فادخل، فأصلح شأنه، وأنفذ إلى هارون فجئ به، فأدخلت، فإذا به ميتا، فحمدت الله تعالى على لطيف صنعه، وتفريج ما كنت فيه، وبادرت إلى هارون، فوجدته نائما فأيقظته، فلما رآني عجب وقال ويحك ما الخبر، قلت قم يا أمير المؤمنين إلى دار الخلافة، فقال أو قد مات موسى؟ قلت نعم، فقال الحمد لله، هاتوا ثيابي، فإلى أن لبسها، جاءني من عرفني أنه ولد له ولد من مراجل، ولم يكن عرف الخبر، فسماه عبد الله، وهو المأمون وركب وأنا معه، إلى دار الخلافة، وفي نفس سنة توليت الرشيد مقاليد الحكم.

 

وقيل أنه قد تولى يحيى بن خالد الوزارة وقال له قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم فيها بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه، وفي سنة مائة وثماني وسبعين من الهجره، قد فوض الرشيد إلى يحيى البرمكي جميع أموره يفعل ما يريد، كل الأمور بيده، يعين ويعزل، ويجمع ويفرق كما يشاء، وبذلك أصبح الوزير يحيى وكأنه الحاكم الفعلي الذي يتمتع بصلاحيات مطلقة، فقام بإدارة أمور الحكم وسد الثغور وجبي الأموال، فعظم شأنه وعُمل برأيه، وعلى الرغم من المنزلة العظيمة التي وصل إليها يحيى، إلا أنه لم يكن المشرف الوحيد على إدارة شؤون الدولة باعتباره وزيرا، وذلك لأن الرشيد خلال السنوات الأولى من حكمه ترك ممارسة السلطة لأمه ولوصيه، إذ كان على يحيى أن يعرض شؤون الرعية على الخيزران أم الخليفة.

 

وفي بداية وزارة يحيى كان يمتلك إدارة الدواوين كلها سوى ديوان الخاتم، فقد كان الختم موكلا إلى جعفر بن محمد الأشعث، ثم في بداية سنة مائة وواحد وسبعين من الهجره، أخذه الرشيد ودفعه إلى أبي العباس بن سليمان الطوسي، ثم لم يلبث أبو العباس يسيرا حتى توفي فعادت هذه الوظيفة إلى يحيى بن خالد الذي جمع الوزارتين، وقد كانت الكتب التي تنفذ من ديوان الخراج تؤرخ باسم يحيى بن خالد، ومنذ أن تقلد يحيى بن خالد الوزارة ظهر ما سمي بدولة بني برمك، وقد قال ابن الطقطقي اعلم أن هذه الدولة كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجا على مفرق العصر، وقد ضربت بمكارمها الأمثال، وشدت إليها الرحال، ونيطت بها الآمال، وبذلت لها الدنيا أفلاذ أكبادها، ومنحتها أوفر إسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرة، والبحور زاخرة.

 

والسيول دافعة، والغيوث ماطرة، أسواق الآداب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ اللهف، ومعتصم الطريد، وقد مكث يحيى في الحكم مدة سبع عشرة سنة، يعاونه في تصريف شؤون الخلافة أبنائه الأربعة: الفضل وجعفر ومحمد وموسى، وقد وصفهم إبراهيم الموصلي بقوله أما الفضل فيرضيك بفعله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل حسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد، ولم يُقدر لولدي يحيى، محمد وموسى أن يلعبا دورا مهما، حيث كان موسى قائدا عسكريا مشهورا بشجاعته، وقد تبوأ ابناه الآخران الفضل وجعفر أعلى المناصب وأعظمها، إذ قام الرشيد بتولية جعفر المغرب كله من الأنبار إلى أفريقيا، وذلك سنة مائة وستة وسبعين من الهجرة.

 

وكما تم تقليد الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، كما لوحظ أن لقب الوزير الذي كان يعني يحيى كان ينطبق أيضا على الفضل وجعفر، وقيل أنه في عام مائه وسته وسبعين من الهجر قد ولِّي الفضل بن يحيى الأرض العباسية من النهر إلى أقصى بلاد الترك، وكان ذلك عندما ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في الدليم، وكثر أنصاره واشتدت شوكته، فاغتم الرشيد لذلك ووجه الفضل في خمسين ألفا من جنوده، وتمكن الفضل من إخماد الثورة باللين دون سفك الدماء، بعد أن أقنع يحيى بقبول الصلح، ووضع له أمانا من قبل الرشيد، كتبه الرشيد بخطه وبشهادة القضاة والفقهاء، فسلم يحيى نفسه وحمله الفضل إلى الرشيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى