قراءة متأنية في رواية كلكامش عودة الثلث الأخير
دراسة في إبداعات الكاتب العراقي واثق الجلبي

رحلة الخلود بين الأسطورة والواقع في رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” للروائي “واثق الجلبي”
قراءة / حمدي العطار
مقدمة:
لطالما كانت ملحمة كلكامش من أبرز الرموز الخالدة في الأدب الإنساني، إذ جسّدت ببُعديها الأسطوري والفلسفي رحلة الإنسان الأبدية للبحث عن الخلود، والخوف من الفناء. ومن هذا المنطلق، يحاول الروائي واثق الجلبي أن يستكمل الحكاية ويعيد صياغة الثلث الأخير من ملحمة كلكامش في روايته “كلكامش: عودة الثلث الأخير”، مقدّماً رؤية سردية وفكرية جديدة تنبض بروح الشعر، وتسأل معنى الخلود، وتعيد تشكيل ملامح البطل في زمن آخر وسياق مختلف.
التحليل الأدبي:
تنطلق رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” من لحظة محورية في الملحمة الأصلية، حيث يُغضب كلكامش الآلهة على رفيقه أنكيدو، مما يؤدي إلى موت الأخير، ويدخل البطل في رحلة مضنية للبحث عن الخلود الجسدي، إلا أن مسعاه ينتهي بالفشل. ومع ذلك، فإن كلكامش لا يموت، بل يظل حيّاً في ذاكرة أورك وأسوارها، وهو ما يشير إليه الكاتب قائلاً: “لم أجد ملحمة قديمة إلا وكانت ملحمة كلكامش تلقي عليها من ظلالها شيئاً” (ص5).
اعتمد الجلبي على تقنية السرد المتداخل، متنقلاً بين أزمنة مختلفة (الماضي، الحاضر، المستقبل) ليكسر رتابة الحكاية ويمنحها حيوية فكرية. كما وظّف عنصر الاسترجاع بشكل بارز، عبر لغة سردية تنهل من الشعر، وحوارات متعددة بين الشخصيات مثل عشتار والحية، وكلكامش وعشتار، بل وحتى الحوار الداخلي مع الذات، حيث تُطرح أسئلة وجودية وفلسفية دون إجابات واضحة، مما يفتح الباب أمام القارئ للتأمل والتأويل:
“لماذا يعرف العراقي كل شيء ولا يتحصل إلا على الحزن؟ هل سيكون خلوده كما يشتهي قلبه؟ أم أن للأقدار رأياً آخر؟” (ص21).
*كما برز عنصر الاستباقية بوصفه تقنية فنية تُستَشرف من خلالها حياة افتراضية جديدة لكلكامش، يعيش فيها زمنًا مستقبليًا مختلفًا تمامًا عن ماضيه البطولي، إذ يتحول إلى فلاح بسيط، يواجه ضغوط الحياة اليومية وأعباء الأسرة. وفي حوار رمزي مع الأفعى، يُصدم كلكامش بحقيقة واقعه الجديد، حيث يُقال له:
“أنت في وطنك، وهذه زوجتك وأولادك، وهذه أرضك التي لا بد أن تزرعها…” (ص24).
*هل تأقلم كلكامش مع الخلود؟
ذلك هو السؤال المحوري الذي تحاول الرواية الإجابة عنه. فبين مشاعر الاغتراب والدهشة، ينجح كلكامش في التكيف مع واقعه الجديد، ويصبح ربّ أسرة، يعلم أبناءه السباحة والرماية، ويشارك في بناء بيت متواضع، ليتحوّل من ملك أسطوري إلى إنسان بسيط تغمره حكمة الحياة اليومية. يتساءل:
“من يرغب بقتال الوحوش وهو يعيش في أسرة ملؤها الحب؟ ما قيمة الإنسان بلا حكمة؟”
*رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” ليست فقط سرداً مكملاً لملحمة خالدة، بل هي عمل أدبي متكامل يحمل بُعداً فكرياً عميقاً، حيث يتداخل الحلم مع الواقع، والأسطورة مع الحياة اليومية. إن الروائي واثق الجلبي قدّم من خلال هذا العمل سردية فلسفية عن الخلود والوجود الإنساني، تجمع بين الشعر والسرد، وبين الفكر والرمز، تاركًا القارئ في نهاية الرحلة أمام تساؤلات وجودية مفتوحة. فهل الخلود فعلاً هو ما نبحث عنه؟ أم أن القيمة الحقيقية تكمن في الحكمة والمعنى وسط الفناء الحتمي؟
تمثل رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” للكاتب واثق الجلبي محاولة فريدة لإعادة إحياء الأسطورة السومرية القديمة، لكن من زاوية معاصرة تطرح أسئلة وجودية كبرى عن الحياة والموت، والخلود والمعنى، والسلطة والإنسان. في هذا العمل، يتتبع الروائي رحلة كلكامش بعد الموت، متناولًا محطات متعددة تتقاطع فيها الأسطورة بالتأمل الفلسفي والشعر بالحكمة.
*تحليل المحاور والأفكار:
1. تكرار الرحلة ومفارقة الخلود:
يسلك كلكامش الطريق ذاته الذي سبق له أن اجتازه مع أنكيدو، في حركة دائرية لا توحي بالسعي لاكتشاف جديد، بل تعكس رغبة في التخلص من الخلود ذاته. فالملك الأسطوري لم يعد يطلب الخلود كقيمة إنسانية، بل بات يبحث عن استعادة “المنصب والمكانة”. وهنا يظهر الفرق بين الخلود بوصفه رغبة إنسانية في الاستمرار، والخلود بوصفه استمرارية للنفوذ والهيبة. هذا التحول الجوهري في نظرة كلكامش ينزع عن الخلود قدسيته، ويجعله عبئًا نفسيًا لا معنى له دون سُلطة أو مجد.
2. رمزية الحية ومطاردتها المتكررة:
ترافق الحية كلكامش في كل محطاته، تذكّره بعشبة الخلود التي فقدها. لكن الروائي يُعيد توظيف هذه الرمزية لتصبح الحية نفسها تائهة تبحث عن معنى لخلودها، أو ربما عن شريك تكتمل به دورة الحياة. إنها ليست مجرد كائن خادع، بل رمز لقلق أبدي، ولحقيقة أن الخلود بلا غاية ليس سوى امتداد للفراغ.
3. الحوار مع شخصيات رمزية: (الرجل والمرأة العقرب، سيدوري، شمخة):
كل شخصية في الرواية تمثل منعطفًا في مسيرة التحول الداخلي لكلكامش. المرأة العقرب تقف كمرآة تعكس له ضياعه وفقدانه لذاته السابقة، فيما يعيد الحوار مع سيدوري وشمخة فتح جراح الموت والفقد، والتفكر في المعنى العميق للرحمة والمغفرة. هذه الحوارات لا تُقدّم أجوبة، بل تعمّق الأسئلة التي تحاصر البطل في طريقه إلى الحقيقة.
4. استخدام الشعر والغنائية:
يلجأ الروائي إلى الشعر الغنائي في لحظات اليأس والانكسار، خاصة حين يعترف كلكامش بندمه وتوقه إلى البراءة الأولى. هذه المقاطع الشعرية تُضفي طابعًا وجدانيًا حميميًا، وتكسر الصيغة السردية لتفسح المجال لصوت داخلي أقرب إلى الابتهال.
5. الفلسفة والذاكرة والأسئلة الوجودية:
في محطة “إزميل الضياع”، تظهر ملامح جديدة لكلكامش، إذ ينغمس في تأملات حول علاقته بوالده، وبالموت، وبالمقدّس، وبالعبودية. هنا يتجلى التحول من البطل المغامر إلى المفكر الحكيم، الذي تنهكه الأسئلة وتطارده شكوكه، ليظهر صراع داخلي مع الذات، كأن الأسطورة نفسها تنهار تحت وطأة الأسئلة الوجودية.
*خاتمة:
رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” ليست مجرد استعادة لملحمة خالدة، بل هي عمل تأملي يعيد رسم ملامح البطل القديم بما يتناسب مع هواجس الإنسان المعاصر. إنها رواية سؤال لا جواب، رحلة داخلية تتقاطع فيها الأسطورة مع الذات، والموت مع الحكمة، والخلود مع العزلة