عبقرية الرمز في قصص ” صديقة عليّ ” بين هموم الحاضر والخوف من المجهول.

عبقرية الرمز في قصص ” صديقة عليّ ” بين هموم الحاضر والخوف من المجهول.
بقلم ـ د/ محمد سيد الدمشاوي
بين عشق المكان حد الذوبان فيه ، وفي تفصيلاته وجزئياته ، وبين حالة الخوف من مجهول يترصده ، تكمن المعادلة الصعبة التي تؤسس لها مرويات الكاتبة السورية ( صديقة علي ) في معظم قصصها ، كاشفة عن حالة الانشطار النفسي التي تسم شخوصها ، وتجبرهم على الهروب من اللعنة التي حلت بالمكان ، وتقضي عليهم بالّلهاث الدائم منذ انبلاج الحدث الأول إلى مفارقة الحكاية ، عبر جمل سردية تضج بالأفعال والحركة ، وجمل حوارية تئن بالتوتر والانفعال، وكأننا أمام صورة أخرى من الميثولوجيا الإغريقية لعذابات سيزيف وديمومة آلامه.
حالة من الفصام الغريب تصيب شخوص قصصها على اختلافهم وتنوعهم وتشكّلهم ، لتنتهي بهم خواتيم قصصها على مفترقات الطرق ، ومنعرجات الدروب ، تنشد الخلاص حينا ، أو تبحث عن الأمان في غيره حينا آخر ، ومن ثم تبدو الصورة متناقضة ــ أحيانا ــ لدى من لا يدرك الرؤية الكلية لبوحها ، ومكنون كتاباتها .
فهي تنحت شخوصها من طين الأرض، وأديم المكان ، لتلقي بهم في متاهة الحكاية التي لا تنتهي ، تقربهم فكأنك تراهم بعينك، وتسمع أنَّاتهم بقلبك وبأذنيك ، وتبحر بهم في غياهب الرؤى والترميز فتجبرك على إعادة حساباتك مرة أخرى أمام ثنائية الرمز والواقع ، واشتجار الزمان والمكان ، والتباس الواقعي بالأسطوري ، أو ما يسمى بأسطرة الواقع ، عبر ديمومة حكائية لا تنقضي ، تسلمك الحكاية إلى الأخرى بين دهاليز المكان واشتجارات الزمان المعقد والمتداخل ، ثم يأتي الموروث الشعبي عبر أغانيه وأهازيجه وأساطيره ومروياته لينثر على الحكاية عبق الماضي وحيرة الحاضر وانتظار المجهول.
لكنها في مجملها حكايات مهمومة ، وأحلام متعبة ، وجراحات ما تزال تبحث عن الالتئام ، وخوف لا يفتأ يتجدد بين الفينة والأخرى من مجهول قادم ، قد تراه تغريبا ، أو تغييبا، أو موتا ، أو ترقبا وانتظارا لمجهول قدريّ ، يرتسم عبر كابوس البؤس ، وضراوة الوحدة والانعزال ، والهلع من الطرد والتشريد من المكان كما في قصة ( قانون ولكن ) ، حيث تلخص الرسالة القصصية في جملة حوارية استفهامية مختزلة:
” أجئت لطردي ؟
ثم ينساب الحوار ليكشف عن عمق المأساة وضراوة الواقع:
” ـ هل تعيش وحيدا هنا؟
ـ وسأموت على وحدتي ..منذ تقاعدت لم أر اصدقائي … ..مقطوع من شجرة… أجئت تنفذ أمر المحكمةـ؟ لا جلد لي على برودة الشارع “.
كما تتجلى في تصوير حالة الضياع والظلامية التي تواجه بطلة القصة في (فجر الطين ) :
” لا قمرَ ولا ضوءَ الآن، ولا عيونَ تعتذرُ، التَّيَّارُ الكهربائيّ مقطوعٌ، وكلُّ الأواصر مقطوعة ”
وتتأكد أيضا عبر الانغماس في الوحل وانتظار المخلِّص في ذات القصة:
” غاصت قدمايَ ويدايَ بالطِّين، أسلمتُ رأسي للوحل، آخرُ ما لمحتُهُ كان الدَّرَجَ الموصِّلَ إلى باحةِ البيت، كان قريباً جدّاً؛ لكنّني انغرستُ وعليَّ أن أنتظرَ إلى أن تجِفَّ الأرضُ ”
أما في ( مواويل آدم ) فتصحو القرية على كارثة كبرى من خلال فجيعتها في بطلها الأسطوري الذي أحبته :
” استيقظ أهل القرية على نباح كلابها، قادتهم إلى جثة آدم الضخمة، الممددة على البيدر بدون رأس”
لتعيش القرية في ديمومة الحزن الأبدي ولا تخرج منها :
“عاشت القرية حداداً طويل الأمد ،واقتصرت أفراحها على مواويل حزينة ” بل تمتد لعنة المكان والاسم لتطال بطل القصة وتضطره للهروب إلى منفاه الاضطراري، إثر تمكن الأعداء ، وحتمية القدر:
” علمت الآن يا ولدي لِمَ أوصيك بالهروب، فأنت موسوم باسم آدم ،والآن ملاحق بأسطورته… ”
وهي ذات الثيمة التي تطرحها قصة ( خطوط المطر) من خلال الفشل وتفسخ العلاقات بين أفراد الأسرة ، وخروج الابن عن طاعة والديه ؛ حيث تختزل صورة التفسخ الذي أصاب الوطن من خلال هذه الأسرة الصغيرة التي تواجه التغريب ، والخوف من مخاطر الإدمان ، وغفلة الأب عن حاجات ابنه وضروراته ، وانكسار الأم ومرضها:
” ومتى كان يهمك مرضي؟ كنت تحلل مرض الجوكندا وتتباهى أمام رفاقك بثقافتك في حين كانت هي عائدة بي من عند الطبيب. ”
ليفيق الأب على كارثة الكشف، وظهور الحقيقة المرة:
” شعرت أن يدا تدفع الكرسي من تحتي، وأنا معلق بحبل من رقبتي ، بلعت ريقي الجاف شوكا في حلقي، وابتلعت دموعي وهزيمتي ما أمكن، وتمالكت نفسي، لأول مرة أقرّ له بأننا أغبياء وهو محق ”
وبين هذا وذاك يأتي الترميز حاضرا لا يغيب ، عالقا في العناوين وفي أسماء الشخوص والأماكن والأحداث والمرويات الشعبية ، وفي الاستهلال والخاتمة ؛ ليعمق الرؤي ، ويخرج الأشياء من محدودية تعبيرها ، وصغر مدلولاتها إلى فضاءات رحبة تحلق في كليات الرؤية ، وبعد الإشارات والعلامات، وفوقية المنظور، وللتأكيد على رسالة القص التي تتعدد وتتنوع وتأخذ أشكالا متباينة، لكنها تلتئم في النهاية عبر إطار واحد لا تفارقه ولا تحيد عنه.