يشهد العالم اليوم تغيرات سريعة وتحديات متعددة تفرض على كافة المجتمعات البشرية ضرورة التحرك صوب صنع مستقبل أفضل يتيح تحقيق اهداف المجتمع في الارتقاء الحضاري من ناحية والاستعداد لمواجهة التغيرات والتحديات المستقبلية من ناحية أخرى. وفي هذا الإطار تتجلّى قيمة المشروع التربوي المجتمعي الذي يعني توحيد الحركة نحو المستقبل المنشود ليتصدّر بذلك الاهتمامات المجتمعية وليركّز القناعة القاضية بأن التربية داخل المجتمع تكون الضمانة المنهجية التي تحوم حولها باقي المشاريع المجتمعية التي تغطي مختلف المجالات.
وتجسيما لهذا الطرح الفكري، يحتاج المشروع التربوي إلى نموذج استرشادي يمكن أن يحتوي كل المبادرات والتجديدات الممكنة ليبعده للغرض ذاته عن كل تحديد نهائي مغلق قد يحدّ من درجة تطويره عبر الزمن تفاعلا مع المستجدات المتسارعة في القرن الحادي والعشرين. واعتمادا على ذلك، يكون من الأهمية بمكان تحديد النموذج الأمثل لينير التوجّه نحو التفكير في مداخل ممكنة قد تمنح المشروع التربوي المرونة الكافية للتكيّف المستمر مع الاحتمالات المتعددة اللاحقة.
ويقودنا هذا الطرح إلى التفكير في تنظيم المشروع التربوي المجتمعي في سياقات متطلبات القرن الحادي والعشرين (Agenda 21) من خلال مجموعة من المداخل المتكاملة التي تهدف إلى بناء قدرات الأفراد-المواطنين والمجتمعات على حدّ السواء. ونعني بمداخل المشروع التربوي المجتمعي، جملة المكونات الجوهرية أو الأبعاد التي يمكن من خلالها تنظيم المشروع وتصميمه وتنفيذه. وبشكل عام، نعني بمداخل المشروع التربوي الإحداثيات التي تضمن فعاليته واستدامته ومواءمته لمتطلبات العصر.
وتفعيلا لهذه المقاربة القائمة على ضرورة منح المشروع التربوي الانفتاح والمرونة اللازمين لتجدّده المستمر عبر الزمن، يمكن التوقف عند الجانب الاجتماعي-الثقافي كأحد المداخل الممكنة المستجيبة لشرطي المرونة والتكيّف. وفي منطق النفس الفكري لهذا المدخل، هناك تركيز على الدور الأساسي للتربية في بناء مجتمع متماسك، مستنير، متسامح، قادر على الحفاظ على هويته مع الانفتاح على العالم، متمسّك بأصالته مع قبول التنوع الثقافي وتعزيز قيم التسامح واحترام الآخر والتفاهم والتبادل. كما يركّز هذا المدخل على تبنّي قيم المواطنة وتثمين مفاهيم حقوق الإنسان والتحلّي بالمسؤولية المجتمعيّة بما يطوّر العدالة الاجتماعية، ويقوّي المشاركة المدنية، ويعزّز المسؤولية تجاه المجتمع والبيئة، وينمّي الروابط الأسرية والمجتمعية.
ومن جهة أخرى يركّز المدخل الاقتصادي في بناء المشروع التربوي، على دور التربية في بناء اقتصادات مستدامة، وتقليل الفقر، وتوفير فرص عمل لائقة، وتمكين الأفراد اقتصاديًا وتنمية مهاراتهم لتتوافق مع متطلبات سوق العمل المتغيرة ولتواكب التطورات التكنولوجية والصناعية (مهارات القرن الحادي والعشرين) والعمل على غرس روح المبادرة وريادة الأعمال وتشجيع الابتكار والتركيز على المهارات الرقمية اللازمة للانخراط في الاقتصاد الرقمي.
هذا ويركّز المدخل القائم على تثمين العائد من التربية كمجال استثمار ذي أولوية داخل المجتمع على قياس الفوائد الملموسة وغير الملموسة التي يجنيها الفرد والمجتمع من هذا الاستثمار بما في ذلك الفوائد الاجتماعية والثقافية. ولنا أن نشير هنا إلى أن هذه المداخل الثلاثة (الاجتماعي الثقافي، الاقتصادي، والعائد من التربية) نراها مترابطة ومتكاملة، وتعمل معًا لتحقيق الأهداف الشاملة للمشروع التربوي في سياق تطلعات القرن الحادي والعشرين الرامية إلى بناء مجتمعات مستدامة ومرنة ومزدهرة.
وسعيا إلى بناء خيط رابط بين مختلف هذه المداخل لتكتسب درجة عالية من المرونة والانفتاح والتكيّف، يمكن أن تضفي إحداثية المواءمة الحيوية الضرورية للمشروع التربوي المجتمعي في سياق برنامج القرن الواحد والعشرين (Agenda 21).
وتضمن إحداثية المواءمة توافق المناهج التربوية بما فيها من مكونات مع الاحتياجات المتغيرة للفرد والمجتمع وسوق العمل والبيئة. ويهدف إلى تحقيق التناغم بين مخرجات التعليم ومتطلبات الواقع، وضمان الجدوى الحقيقية والمفيدة للأفراد والمجتمعات على حد السواء.
فالمواءمة بهذا المعنى ليست مجرد خطوة إجرائية، بل هي فلسفة ومنهجية تضمن فعالية ونجاعة المشروع التربوي الذي يستهدف خدمة الاحتياجات الحقيقية للفرد والمجتمع. والمواءمة، في جوهرها، هي فن ربط العملية التربوية بما هو مطلوب في الواقع المعيش، وهي الجسر الذي يضمن المرور من النظرية والتطبيق، والذي يربط بين المخرجات التعليمية والاحتياجات المتغيرة لسوق العمل والمجتمع. إنها القوة الدافعة للتغيير الإيجابي والتنمية المستدامة.
إن تنظيم المشروع التربوي المجتمعي على ضوء إحداثية المواءمة من شأنه أن يحقّق التوافق مع احتياجات سوق العمل المتغيرة، وأن ينسجم مع التغيرات المجتمعية والبيئية وأن يستجيب للتحديات البيئية وتقديم حلول مستدامة. كما ان اعتماد إحداثية المواءمة من شأنه أن يحقّق التكيف مع التحولات الاجتماعية وإعداد الأفراد-المواطنين لمعالجة القضايا المجتمعية المستجدّة (مثل الهجرة، التنوع الثقافي، والتحول الرقمي وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات) وتشجيعهم على أن يكونوا فاعلين ومساهمين في بناء مجتمعاتهم.
وتضمن المواءمة من جهة أخرى بناء التوافق والانسجام بين تطلعات الأفراد وتنمية مهاراتهم الحياتية التي تمكّنهم من النجاح في حياتهم الشخصية والمهنية على نحو إدارة الوقت، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات، وتحمّل المسؤولية والشعور بالاستقلالي، وبين توفير المسارات التعليمية المرنة التي تتناسب والأولويات الوطنية والدولية. وتعتبر المواءمة بهذا المعنى قوة دافعة للتغيير والتنمية، وارتباطًا وثيقًا بالواقع المعيشي للأفراد والمجتمعات، واستجابة قويّة لتحديات الحاضر وتطلعات المستقبل.