مقال

حين يكون الغياب وطناً

جريدة الأضواء المصرية

حين يكون الغياب وطناً

في لحظةٍ لا يُعرف فيها الفرق بين الذكرى والحقيقة، يصبح الغياب أكثر حضورًا من أيّ شيءٍ آخر. يصبح وجه من نحبّ مرآةً نُحدّق فيها كلّ يوم، دون أن نراهم. لا لأنهم رحلوا فحسب، بل لأنهم انغرسوا فينا حتى صاروا جزءًا من ملامحنا، من طريقتنا في الحزن، من نظرة أعيننا حين تغيب الشمس.

الذين نحبّهم لا يرحلون تمامًا، بل يتركون فينا ما يكفي من الشوق، لنظلّ نسير نحوهم في كل الطرق، حتى لو علمنا أنها لا تؤدي إليهم. نكتبهم على هيئة حروفٍ، ونرسمهم على وجوه المارّين، ونبحث عن أصواتهم في ضجيج العالم. نُهديهم دمعة، نُحضّر لهم قبراً من ورد، نُطرّز أسماءهم على أبواب الحنين، ونهمس للسماء: “خذوا من أيامي، واتركوا لي لحظةً معهم”.

في الغياب، نعيد ترتيب أرواحنا. نكتشف كم كنّا نجهل تفاصيل من نحبّ. كم مرّةً ضحكوا، أو تألموا بصمتٍ، ولم نكن نسمع. نُدرك متأخرين أن الحضور لا يُقاس بالزمن، بل بأثر القلب.

هناك نوع من الحزن لا يُبكى، بل يُكتب. تُصبح فيه الكلمات نعشًا، والسطور قبراً، والورق عزاءً مؤجلاً. وقد نعيش العمر كلّه نحاول أن نقول جملة واحدة: “ليتهم بقوا”. لكنهم لا يعودون، ونبقى نحن نحملهم كأنهم صلاة لا تموت.

وحين يجيء الموت، لا نطلب أكثر من أن تُذكر أسماؤنا بشفاه من أحببنا، أن يُهمَس بنا للأرض، كما يُهمس بسرٍ عزيز. أن نُدفن في حضن الكلام الذي قيل عنّا بمحبة، لا في التراب فقط.

في النهاية، الغياب ليس نهاية. إنه وطنٌ جديد نسكنه وحدنا، بأرواح نصفها هناك، ونصفها.. لا يزال يبحث.

ربا رباعي 

الاردن

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى