التاريخ السياسي للتعريفات الجمركية في السياسة الأمريكية المتحدة مرتبط ارتباطا وثيقا بالسياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية
كتب يحي الداخلى
التاريخ السياسي للتعريفات الجمركية في الولايات المتحدة مرتبط ارتباطا وثيقا بالسياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية للبلاد. منذ تأسيس الجمهورية، كانت التعريفات الجمركية قضية محورية تؤثر على التجارة والصناعة والدبلوماسية الأمريكية، حيث تباينت السياسات بين الحماية التجارية والانفتاح على الأسواق العالمية وفقًا للظروف الاقتصادية والتحولات السياسية.
في العقود الأولى بعد الاستقلال، اعتمدت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية كأحد المصادر الرئيسية لتمويل الحكومة الفيدرالية، حيث لم يكن هناك ضريبة دخل في ذلك الوقت. صدر قانون التعرفة الجمركية لعام 1789 في عهد جورج واشنطن، وكان الهدف منه تحقيق إيرادات كافية لدعم الحكومة الجديدة، بالإضافة إلى توفير الحماية للصناعات الناشئة في الشمال. سرعان ما أصبحت التعريفات موضوعًا خلافياً بين الولايات، حيث فضّلت الولايات الشمالية التعريفات العالية لحماية مصانعها، بينما رأت الولايات الجنوبية أنها تضر بتجارتها، التي كانت تعتمد على تصدير المنتجات الزراعية واستيراد السلع المصنعة.
بلغت الخلافات حول التعريفات الجمركية ذروتها مع “تعرفة عام 1828″، التي أطلق عليها الجنوبيون لقب “تعرفة البؤس”، حيث اعتبرتها كارولينا الجنوبية إجراءً غير عادل يصب في مصلحة الشمال فقط. أدى ذلك إلى أزمة الإبطال عام 1832، حيث حاولت كارولينا الجنوبية إبطال القانون الفيدرالي داخل حدودها، مما دفع الرئيس أندرو جاكسون إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية لضمان الامتثال للقانون. انتهت الأزمة بتسوية جزئية، ولكنها كشفت الانقسامات العميقة داخل الاتحاد. استمرت التعريفات الجمركية في الارتفاع خلال الحرب الأهلية، حيث أقرّ الكونغرس “تعرفة موريل” عام 1861 لتمويل المجهود الحربي وحماية الصناعات الأمريكية من المنافسة الأجنبية، مما عزز السياسات الحمائية لعقود لاحقة.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع صعود الثورة الصناعية في الولايات المتحدة، أصبحت التعريفات الجمركية أداة رئيسية لدعم الصناعات المحلية، خصوصًا في مجالات الصلب والنسيج والسكك الحديدية. سيطرت السياسات الحمائية على المشهد الاقتصادي، حيث دعمت الحكومات الجمهورية قوانين مثل “تعرفة ماكينلي” عام 1890 و”تعرفة دينغلي” عام 1897، اللتين رفعتا الرسوم الجمركية بشكل كبير، مما أثار استياء المزارعين والمستهلكين. على الجانب الآخر، سعى الديموقراطيون، بقيادة الرئيس غروفر كليفلاند، إلى خفض التعريفات الجمركية، باعتبارها عبئًا غير عادل على الفقراء والمزارعين الذين اضطروا لدفع أسعار أعلى للسلع المستوردة. كان “قانون ويلسون غورمان” لعام 1894 محاولة لخفض التعريفات، لكنه تعرّض لتعديلات في مجلس الشيوخ أضعفت تأثيره بشكل كبير، مما أدى إلى استمرار الجدل حول السياسة التجارية.
مع دخول القرن العشرين، تصاعدت الدعوات إلى إصلاح النظام الجمركي، خاصة في ظل انتشار الأفكار التقدمية المطالبة بكبح نفوذ الشركات الكبرى وخفض الأسعار للمستهلكين. حاول الرئيس وودرو ويلسون تنفيذ إصلاحات كبيرة عبر “تعرفة أندروود” عام 1913، التي خفضت الرسوم الجمركية وأدخلت ضريبة الدخل لتعويض النقص في الإيرادات. لكن بعد الحرب العالمية الأولى، شهدت الولايات المتحدة عودة إلى الحمائية، حيث أقر الكونغرس “تعرفة فوردني-ماكومبر” عام 1922، التي رفعت الرسوم لحماية الصناعات المحلية من المنافسة الأوروبية المتزايدة بعد الحرب.
خلال فترة الكساد الكبير، أدت السياسات الحمائية إلى نتائج كارثية. في عام 1930، أصدر الكونغرس “تعرفة سموت-هاولي”، التي فرضت أعلى الرسوم الجمركية في التاريخ الأمريكي. كانت النية من القانون حماية الوظائف الأمريكية، لكنه أدى إلى انتقام تجاري من دول أخرى، مما تسبب في انهيار التجارة الدولية وتفاقم الأزمة الاقتصادية. أدرك الرئيس فرانكلين روزفلت الحاجة إلى تغيير جذري في السياسة التجارية، فعمل على تمرير “قانون الاتفاقيات التجارية المتبادلة” عام 1934، الذي منح الرئيس صلاحية التفاوض على خفض التعريفات مع الدول الأخرى، مما مهّد الطريق لنهج أكثر انفتاحًا في التجارة العالمية.
بعد الحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة سياسة التجارة الحرة كجزء من استراتيجيتها لإعادة بناء الاقتصاد العالمي ومنع الحروب التجارية. ساهمت في تأسيس “الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة” (GATT) عام 1947، التي أصبحت لاحقًا منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 1995. قادت الولايات المتحدة جهود خفض التعريفات الجمركية عبر جولات تفاوضية متعددة، مثل “جولة كينيدي” في الستينات و”جولة أوروغواي” في الثمانينات والتسعينات. كما لعبت دورًا رئيسيًا في إقرار “اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية” (NAFTA) عام 1994 في عهد الرئيس بيل كلينتون، التي ألغت التعريفات بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، مما عزز التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث، لكنه أثار انتقادات من العمال الأمريكيين الذين اعتبروا الاتفاقية مسؤولة عن فقدان وظائفهم.
في القرن الحادي والعشرين، بدأت تظهر ردود فعل عنيفة ضد سياسات التجارة الحرة، خصوصًا مع دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، مما أدى إلى تدفق السلع الصينية الرخيصة إلى الأسواق الأمريكية وتراجع التصنيع المحلي. ازدادت الأصوات المعارضة للعولمة، خاصة بين العمال الصناعيين المتضررين، وهو ما دفع الرئيس باراك أوباما إلى محاولة تحقيق توازن من خلال دعم اتفاقيات مثل “الشراكة عبر المحيط الهادئ” (TPP)، لكنه واجه معارضة قوية من حزبه والجمهوريين على حد سواء، مما أدى إلى فشل المشروع.
مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017، عادت الحمائية إلى الواجهة. فرض ترامب رسومًا جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من عدة دول، كما شن حربًا تجارية على الصين عبر فرض تعريفات جمركية مشددة على مئات المليارات من الدولارات من الواردات الصينية، مبررًا ذلك بحماية العمال الأمريكيين ومنع سرقة التكنولوجيا. أثارت سياساته انتقادات واسعة من الشركات والمستهلكين، لكنها لاقت دعمًا من قطاعات صناعية تضررت بسبب العولمة. استمر الرئيس جو بايدن في الحفاظ على معظم الرسوم التي فرضها ترامب على الصين، لكنه ركز على سياسات إعادة التصنيع داخل الولايات المتحدة، مثل قانون “CHIPS” لدعم صناعة أشباه الموصلات، بهدف تقليل الاعتماد على الصين في القطاعات الاستراتيجية.
التعريفات الجمركية كانت دائمًا أداة سياسية واقتصادية متغيرة، حيث انتقلت الولايات بين الحمائية والتجارة الحرة وفقًا للظروف والمتغيرات الدولية. في السنوات الأخيرة، عاد التركيز على حماية المصالح الصناعية الوطنية، مما يشير إلى تحول مستمر في السياسة التجارية بعيدًا عن النهج الليبرالي للعقود الأخيرة.