مقال

الوَعْـيُ قَبْـلَ الْسَّعْـي

جريدة الأضواء المصرية

الوَعْـيُ قَبْـلَ الْسَّعْـي
إعـداد
د/ أحمد عبد الفتاح حمدي الهنداوي
أستاذ الإدارة والتخطيط والدراسات المقارنة المساعد
بكلية التربية بنين بالقاهرة – جامعة الأزهر
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ – سورة الملك (22) إن من أعظم النِّعَمِ التي يمُنُّ الله تعالى بها على عباده؛ نعمةَ الهداية والاستقامة على صراطه المستقيم، فهي مَجْلَبة لكل خير في الدنيا والآخرة، وقد هدى الله الإنسان لأن يتعلم ويتعرف على الكون من حوله، فالمعرفة هي جوهر الوجود الإنساني، بل هي تمثل الفهم الحقيقي والعميق للعالم الذي نعيش فيه.
ولنا في الحياة مبدأ جوهري وقانون راسخ تعلمناه في أزهرنا الشريف، وهو: “الوعي قبل السعي” أي لا بد للإنسان أن يتعلم ويفهم ويتأهَّل ويعي أولاً، ثم بعد ذلك يتحرك ويسعى في الحياة وإعمار الأرض، فلا نقول “المعرفة قبل السعي” ولا “الفهم قبل السعي” ولا “الإدراك قبل السعي”؛ وإنما “الوعي” لأنه يعبِّر عن الحالة التي يكون فيها الإنسان بحالة من الإدراك والعقلانية الكاملة، والتي يكون من خلالها إنسان حكيم وعاقل قادر على التواصل مع المجتمع من حوله بكل حكمة وقدرة.
والوعي يتجاوز مجرد الإدراك؛ لأنه يتضمن فهمًا عميقًا للترابط بين العناصر المختلفة في حياتنا، مما يساعد على توجيه الجهود بشكل فعال وتجنب الأخطاء المحتملة، واستشراف المستقبل.
فسعي الإنسان في حياته لا بد أن يسبقه وعي وبصيرة، فلا يسعي المرء في عمله إلا بعد الفهم الدقيق والواعي له، فإذا لم يكن لدينا الوعي الكافي بطبيعة أعمالنا وحدودها ومقوماتها؛ فيتوجب علينا أن نسأل ونستشير أصحاب الخبرة والتخصص حتى نسير في الاتجاه الصحيح ونكون على دراية بالنتائج المتوقعة، امتثالاً لقوله تعالي في محكم التنزيل: ﴿فَاسْألُوا أهْل الذِّكر إن كُنتُم لَا تعلمُون﴾ – سور النحل (43)، فتحريك العقل بالعمل والفكر  والتأمل  ضرورة حتمية، فالوعي دليل على الفهم العميق ومؤشر لكي يبدع الإنسان في عمله وأدائه.
ويُعد الوعي في بيئة العمل؛ من أهم القدرات التي ينبغي أن يتمتع بها كل فرد في عمله، حيث الوعي بذاته وقدراته وإمكاناته التي يتحرك في ضوئها، والوعي بمحيط عمله وتوجهه المستقبلي وما يتطلبه من أعمال وأنشطة وأداءات، والوعي بثقافة العمل والقيم السائدة فيه، وأن يكون في حالة من اليقظة والتفكير والانتباه لتطوراتها، والاستجابة لها بما يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود.
ومن هنا؛ فإن الوعي بـ “المهام/ المسئوليات/ الأدوار/ الواجبات/ الاختصاصات/ الصلاحيات” والخطوط الفاصلة بينها في التنظيم الإداري للعمل؛ أمر في غاية الأهمية لنجاحه وتحقيق أهدافه، كما أن الغموض وعدم الوضوح؛ يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية تؤثر علي الفرد، مثل: عدم الرضا عن العمل والقلق والتوتر، والهروب من المسئولية.
الوعي بالاختصاصات:  والاخْتِصَاصُ فِي كل عمل أمر ضَرُورِيٌّ، وفي اللغة يقال: مادة (خصص) بمعنى تفرد أو تميز أو اختص بالشيء، وفي الاصطلاح: فان الاختصاص هو فَرْعٍ مُحَدَّدٍ مِنَ العُلُومِ وَالصَّنَائِعِ لِلتَّمَكُّن مِنْهُ، فعندما نقول “هَذَا لَيْسَ مِنِ اخْتِصَاصِهِ” أي لَيْسَ مِنِ اهْتِمَامِهِ أَيْ لا يَدْخُلُ فِي نِطَاقِ تَخَصُّصِ الفرد  وبالتالي لا يُحاسب عليه، وتحديد الاختصاصات يسهم في تصنيف الوظائف بصورة منهجية عبر توزيع العمل استنادا الي المؤهلات والمهارات والقدرات لدي الأفراد والأعمال التي يقومون بها، لذا يجب أن يكون القائد على دراية ووعي باختصاصات كافة الموظفين، وفي بعض الاحيان؛ يخاطر القائد بتخصيص العمل للموظف الأقل خبرة من أجل الكشف عن المواهب الخفية للموظف أو لتزويده بفرص متنوعة للنمو المهني.
الوعي بالصلاحيات: والصلاحيات هي ما يمتلكه الموظف من صلاحية وأهلية للتدخل في أداء عمل ما ومتابعته والعمل على تحسينه، ومدي قدرته على محاسبة المقصر في مهمته أو إثابته على إجادته. وهي تلك الحدود المسموح بها لشخص معين والمتوفرة له ولا ينبغي أن يتعداها، حيث يتم تنفيذ المهام المطلوبة منه في حيز هذه الصلاحيات، فهو حينئذ مسؤول عنها بشكل كامل، وتندرج تلك المسئولية تحت المهام، وبدون مهام لا يوجد هناك مسئولين وبالتالي فلا اختصاصات ولا صلاحيات.
الوعي بالمهام: والمهام في اللغة؛ “ما هم به من أمر ليُفعل”. وهي تلك الأعمال الموكلة إلى موظف ما، في إدارة مُعينة، يتم القيام بها في وقت محدد، وفق ضوابط محدده سلفا، بما يتفق مع مهاراته وقدراته.
الوعي بالمسئوليات: والمسئوليات هي عاقبة الأفعال التي يفعلها الموظف سواءً كانت إيجابًا أم سلبًا، فمسئولياتك قد يقوم بها غيرك، لكنك أنت المسؤول عن نتائجها. فتصبح حينئذ ملزما بتحريها ومتابعتها ومراقبتها عن كثب، وتوجيهها ثم قبولها واعتمادها.
الوعي بالواجبات: والواجبات هي ما يستلزم على الشخص القيام به بصفة شخصية دون غيره، أو هي الأعمال الموكلة للشخص في إطار معين ولا يمكن لغيره القيام بها، نتيجة لقدرته على قيادتها وإتمامها بذاته.
الوعي بالأدوار: والدور هو السُّلوك المتوقَّع من الفرد تجاه فريقه، أو النَّمط الثَّقافيّ المحدِّد لسلوك الفرد الذي يشغل مكانةً معيّنة، وعندما نقول “قام بدوره “، أي شارك في العمل بمكانته التي يشغلها، كأن يكون مثلا شارك في عمل ما أو أثّرَ في شيء ما بصورة صحيحة. ومن الممكن تعدد الأدوار التي يقوم بها الفرد، مثلاً المشرف له عدة أدوار (دور وقائي – دور علاجي – دور رقابي – دور تقويمي – دور تنموي) تجاه المعلمين. وهناك “دور متوقع” (ما ينبغي أن يُمارسه الشخص) لكي يؤثر تأثيرًا إيجابيًا في بيئته ومجتمعه تكامُلًا مع أدوار أخرى يقوم بها، وهناك “الدور الفعلي”؛ وهو ذلك الدور الذي يمارسه الشخص في حدود قدراته وإمكانياته المتوفرة لديه خلال سعيه نحو تأدية الدور المتوقع على قدر اجتهاده وفي ظل الظروف المحيطة به، وما بين الدور المتوقع والدور الفعلي تتضح مشكلة الأداء.
وبناء على ما سبق؛ نجد بالفعل فرق/ علاقة بين تلك المسميات حتى بالوظيفة الواحدة، لذلك على كل فرد أن يفهمها ويعي حدود عمله وطبيعة صلاحياته التي سيقوم بممارستها، للتنقل بينها بسلاسة، ويسر، فيجب الفصل بين كل من الواجبات والمسؤوليات، بحيث تأتي الواجبات مقدمه أولًا، ثم يتبع ذلك ما سيقوم القائد أو التابع بتنفيذها بذاته.
وعليه فمن الضرورة القصوى وعي كل موظف بهذه المسميات بمجرد التحاقه بالعمل، كي يدرك بوضوح موقعه الذي يمثله داخل الهيكل التنظيمي للمؤسسة وسياساتها والقواعد المنظمة لها فيتضح ما له وما عليه، وكذلك يدرك بإتقان الحدود الفاصلة بين مهامه ومهام زملاءه ورؤساءه، حتى لا تتبدد الطاقات في غير مكانها الصحيح ويتبع الفرد الوسائل المطلوبة واللازمة لإنجاز هذه المهام وآلية أداءها بدقة وسبل تقييم الأداء والأهداف المتوقع منه تحقيقها ومدى ارتباطها بأهداف المنظمة واتساقها مع سياساتها.
وإلا سيحدث ما نراه غالبًا من خلط في المهام وتهرُّب من المسئوليات وازدواجية الأدوار، وعند حدوث ذلك يقف الشخص مُشتتاً أمام كل هذه الاحداث، مما قد يؤدي إلى هدر الوقت والطاقة وعدم العدالة في توزيع العمل. ولذلك يتحتم أن يكون لدينا أساسًا قويا للمحاسبة، يوضح بشكل تام على أي شيء يتم محاسبة الموظف ومن الذي سيحاسبه ومتى وكيف وأين ولماذا؟
فإذا لم يكن هناك وعي بالمهام والمسئوليات فسيكون مقر العمل مختبرًا للتجارب والتعلم بالمحاولة والخطأ مما يؤدي لتضييع الوقت والجهد، فالسعي بلا وعي تخطيط فاشل لا فائدة منه ولا أثر يُرتجى، كما أن عملية اتخاذ القرار مبنية على ارتفاع مستوى الوعي الدقيق لاتخاذ قرارات مستنيرة من خلال فهم العواقب المحتملة.
ولا شك أن الوعي بمفردات التنظيم الإداري في بيئة العمل؛ يساعد على تحسين العلاقات مع الآخرين والتواصل معهم بشكل أكثر فعالية بدلاً من الصراعات والنزاعات التي لا طائل من ورائها، وترسيخ الاستقرار الوظيفي وتحقيق مبدأ المسئولية، كما يُساعد على استثمار الوقت والتحسين المستمر للأداء واكتساب المهارات المتجددة بهمة وفعالية. ويمكن اكتساب مهارات الوعي في مجال العمل عبر التدريب المستمر لاكتساب مهاراته في مجال العمل، وعبر القراءة الواسعة والاطلاع الدائم، وعبر الممارسة المركزة والمستمرة له في بيئة العمل وتطبيقها بصورة فعالة.
وختامًا؛ كن على وعي تام بمهامك ومسئولياتك وواجباتك وأدوارك واختصاصاتك وصلاحياتك، ومتابعة تحديثها بشكل مستمر، فالوعي هو مركز الطاقة الحيوية التي توضح الأمور وترسُم الأهداف وتحدِّد الواجباتِ وتبيِّن الخُطواتِ التي يجب اتِّخاذُها عبر  مجموعة من القِيم والمَبادِئ الأصيلةِ الّتي لا بدّ أن تَسِير في إطارِها، مما يضفي علي العلاقات الإنسانية والتفاعلات الحيوية داخل المؤسسة نوعا من الهدوء والسلام الذي يشجع علي احترام الحقوق ومراعاة الواجبات وأداء الأدوار وتحمل المسؤوليات وتحديد الاختصاصات، وتجنب السلوكيات السلبية أو الثائرة  التي في ظلها تهدد حقوق الانسان وحرياته الاساسية، مما يحتم علي كل موظف أن يكون مستنيراً واعياً برسالته الإنسانية، وبالضوابط الإدارية والتنظيمية الموجهة للعمل، وبالطريق الصحيح للمساهمة في الارتقاء بعمله وبأدائه وتقدمه.
= مقال قيد النشر في مجلة التربية (الأزهر)، المجلد (44)، يناير 2025م، (من زاوية تربوية)، يمكن الرجوع إليه من خلال رابط المجلة التالي: https://jsrep.journals.ekb.eg/
والله تعالي من وراء القصد، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى