
تعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله الرحيم الودود، سبحانه من خالق عظيم وبخلقه رؤوف حليم، أشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا عباد الله، اتقوا الله فإن ساعة عظيمة تنتظركم، يجزى فيها الإنسان عن الصغيرة والكبيرة، موقفها عظيم وأمرها جلل فتزودا لذلك وإن خير الزاد التقوى، ثم أما بعد لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حليما، فما دام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يكظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله تعالي، وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه.
فقال لهم يوم الفتح صلى الله عليه وسلم ” اذهبوا فأنتم الطلقاء” وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام ” لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ” وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد إمتثل أمر ربه في قوله ” فاصفح الصفح الجميل ” فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربما تبسم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم “لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب” رواه البخاري، وكان يبلغه الكلام السيء فيه فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه.
وورد عنه أنه قال ” لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر” رواه احمد وأبو داود والترمذي، وبلّغه ابن مسعود رضي الله عنه كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال صلى الله عليه وسلم ” رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر” رواه البخاري ومسلم، وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم ” من كف غضبه كف الله عنه عذابه” وقال له رجل اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم ” خبت وخسرت إذا لم أعدل” رواه البخاري ومسلم، واللفظ له عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ولم يعاقبه بل صفح عنه، وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات.
ممتثلا قول ربه عز وجل ” ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ” وكان مع أهله أحلم الناس يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله لما لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية.