الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذ به أعاذ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد عندما نذكر ذكريات الهجرة النبوية المباركة علينا أن نستلهم منها الدروس والعبر ونأخذ من ماضينا لحاضرنا وذلك كي تستقيم حياتنا، وتستقر أحوالنا ومن بين هذه الدروس التي ظهرت جليا في الهجرة المباركة هو التخطيط للعمل والتخطيط هو تحديد الأهداف المراد تحقيقها، ورسم خط السير إليها، وتحديد الوسائل المعينة، فالتخطيط لأي عمل، سبب رئيسي من أسباب نجاحه بل أصبح هو مفتاح التقدم والرفاهية، ولم يعد ممكنا تحقيق أي هدف دون تخطيط مسبق له.
فكيف خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة النبوية المباركة وكيف استطاع بحسن تخطيطه لها وتوكله على الله تعالي، أن يفلت من أيدي الكفار ويرد كيدهم ويفشل مخططهم ويصل إلى المدينة دار هجرته سالما ويقيم دولة الإسلام، وهكذا خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته وعمل بجوارحه بالأسباب مع توكل قلبه على الله تعالي، وأول مراحل التخطيط كما جاء في حديث السيدة عائشة هو ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطط لتحركاته فيخفي أمره عن أعدائه فيذهب إلى أبي بكر الصديق رفيقه في الرحلة في وقت قل من يراه فيه ليتخفى عنهم لأن الناس في وقت الظهيرة وشدة الحر، يلزمون بيوتهم وتغطية وجهه وإخفاء ملامحه وهو أيضا زيادة في التخفي عن أعين الأعداء.
وأمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق بإخراج من في بيته من غير أهله، كما في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الحديث، وهذا أيضا من التخطيط لنجاح العمل وهو السرية التامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن لا يسمع كلامه أحد، حتى لا ينقل إلى قريش، فطلب من أبي بكر رضي الله عنه أن يخرج من بيته من لا يثق فيه ويفشي سره وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السلسلة الصحيحة للألباني “استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود” وكما كان من التخطيط هو تجهيز رواحل السفر لتكون صالحة لهذه المهمة وإعداد الطعام والزاد الذي يستعينون به في رحلتهم، وذهابه صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور وإختياره له دون غيره وإختفاؤه فيه ثلاثة أيام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يتجه جنوبا حيث غار ثور لأنه يعلم أن القوم سوف يتجهون للبحث عنه جهة المدينة جهة الشمال فهو يختبئ في عكس إتجاههم ويمكث فيه ثلاثة أيام حتى ييأس القوم من العثور عليه ويتأكدوا من إفلاته من بين أيديهم فلا يبحثون عنه، وكما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم له عينا أمينة قوية حكيمة، تنقل له أخبار قريش ليتخذ بعد ذلك ما يراه مناسبا من الخطوات التالية، وأيضا إتخاذه الحيطة في إعفاء الأثر للمترددين على الغار، وأيضا التخطيط لطعامهم أثناء اقامتهم في الغار، واتخاذه صلى الله عليه وسلم الدليل، وكما أمر عليا رضي الله عنه أن يبيت في فراشه ليخدع به المتربصين به، وأيضا سيرهم في طريق الساحل إلى المدينة وهو طريق غير مألوف عندهم في السفر إليها.