
أيها المتدينون تواضعوا
كتب / يوسف المقوسي
عرف العالم ديانات كثيرة، بدعوى الخلاص. كلها تنتمي الى عالم ماورائي. جسدَت وجودها الدائم، دون برهان او دليل، على اسلوب “تبلغوا وبلغوا”. قول يقال وينفذ، والقول فيض من العصمة، امتحان القول يقع على عاتق المؤمنين بالدين.
الماورائي لا زمني، أبدي وإملائي. الممارسة الدينية، مفترض ان تكون الامتحان. النتائج كانت كارثية. وباء الاجتهاد والتفسير والمصالح. وظف النص الديني، لمصالح وغايات ارضية وزمانية ومكانية. بدا من التجارب المتناسلة، الفشل الانساني في ترجمة الإلهي. النص بريء، الترجمة كانت فادحة. ما جاء من “فوق”، سماوي، وما تمت ترجمته من تحت، كان كارثياً: دمار، حرائق، مقاتِل، تمثيل بالجثث، استغلال، عبودية، تسلط، فتن، مذابح… تحولت الرسالة السماوية الى تجنيد “المؤمنين” مقابل صكوك ملكية سماوية. نوع من الرشوة كما تحولت في جغرافيتنا العربية، الى سياقات إفتائية، حوَلت الآية الى سيف، والسيف “مصداق” كاذب للآيات.
هل تولد ديموقراطية من هذا الإرث؟ هل تمارس مساءلة ومحاسبة من قبل الناس، الذين يصبحون شعوباً في مساحات وفضاءات؟ هل هناك قيمة للحرية؟ إذا كان الإنسان عبداً للدين، فلا حرية، بل تقليد الخلف للسلف، برغم افتراق الازمنة وتعدد المشكلات والخيارات؟.
هل يُحاسب الإنسان على عمله ام على تنفيذه لـ”الأمر الإلهي” المبلغ له من مسجد او مراجع متعددة، تعدد الاديان والطوائف والاجتهادات. أخيرا هل الدين صالح في السياسة؟ هل يسيء الى مجتمعه او يُساء اليه من قبل سلطات مجتمعاته؟ أليس من الضروري، والبديهي، انقاذ الدين مما يساء اليه في السياسة؟ السياسة يفسدها الدين، والدين ورجالاته، يفسدون السياسة.
مذ وجد الدين، اعطي العصمة. الاختلاف بين الديانات مزمن وأصيل، برغم اعتبار كل دين، انه الصح. علماً ان مرجعهم واحد أحد، ولا أحد سواه.
الدين ملازم للبشرية، أكانت وثنية أم سماوية. هناك حاجة للإيمان، ولغز الانسان بحاجة الى جهد كبير، ليفسر اسراره. الانسان كونٌ تام، لا تختصره النصوص، ولو كانت مطوية لاهوتيا، ومبصومة اجتهادياً. الإنسان، كونه كائن شره للحرية، لا تلجمه الأوامر. فهو ليس قلباً، وايماناً، وعقلاً، وحاجة. انه كائن كوني تام، بدءاً من بدايات الهمجية، بلوغاً الى رخامته في القرن الراهن. الإنسان كائن صغير جداً، واجتياحي بشرياً. العالم تغير بيديه وجهوده ونضاله وعقله ودمه. الله لا يتدخل عملياً. قد يُقال، ان الله اراده كذلك. ليس هذا الكلام صحيحاً. الله يحاسب الانسان لأنه حر في خياراته. وحريته هذه يدفع اثمانها هنا اولاً، قبل هناك، ان كان هناك محاكمة .
إن الدين رسالة مفروضة من فوق، وهو تام، لا يأتيه نقص من أي جهة، وهو تناول “كل شيء” تقريباً. صحيح أن ما جاءه املاءً لا رأي للإنسان فيه. تبلغه كلاماً وسيرة، املاء مقدس. مطَوب. نموذجي. املاء يملي حقائق دائمة وثابتة. وعلى من ولد من بطن ديني ان يتفانى في تأييد وانتهاج ما جاء نصاً أو وحياً. ودرج الانسان ان يأخذ ذلك بالواسطة. المؤسسة الدينية، او الادق، السلطة الدينية احتكرت القول والتفسير والاجتهاد. وأضافت وأصَلت و… كل هذا من ابتداع العقل الانساني الذي تم توظيفه في تعليم النص والتشريع، والسهر عليه، وفي المعاقبة الزمنية، لما يقترفه الانسان المخالف للشرع والنص والاجتهاد .
قلة نادرة، نادرة، نادرة، اختارت دينها. والجماعات، في كل الاصقاع الايمانية أخذت دينها من نسلها فور ولادتها. يُرهن الطفل او الطفلة للدين. قبل ان يعي ويتعلم بالحروف و… الدين ولاّدة شعوب. الانجاب وحده، اقوى من كل الحجج ومحاولات الاقناع. من “ولد من نص ديني شب وشاب عليه”. الدين يرضع مع الحليب. ولم يكن بحاجة الى علم وتفكير ليختار. هكذا كان التاريخ وما زال، ولن يزول.
لذلك أيها “المؤمنون”. لا فضل لكم في تدينكم. كلكم سواسية. الانفتاح نادر. التقليد دائم. الوراثة لم تتوقف بعد، وأظن انها لن تتوقف. المسيحي يلد مسيحيين والاسلام يلد محمديين، والتوراة تلد يهوداً، الى آخر الزمان. فيا أيها المتدينون تواضعوا. دينكم اختاركم ولم تختاروه. انكم متشابهون اصلاً ومتناقضون فعلاً. سماؤكم جميلة وأرضكم جحيم .
نعبر القرون، ونحط رحالنا في دنيا العرب ومن حولها. انها محكومة بمذاهب متعادية، وطوائف متقاتلة ومنازلات متسلسلة، وعلى ضفافها دم وحروف كل فئة تشهر سيفها وآيتها. دين واحد يصلح عندهم لكل المعارك. “الله” كما يدعون هو فوقهم جميعاً. كأنه هو المحرض والمرتكب، فيما الاعمال السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تمليها قوى، تستقوي بالثروة والسلطة والارث والتاريخ. وتطوب نفسها بأنها “الفئة الوحيدة الناجية” وما تقوم به، وما يرتكبونه جميعاً، هو من ارادة الله. وهذا افتراء وافتئات وظلم. الدين في الواقع والوقائع، مضاد للنصوص، وان لم يكن كذلك فكارثة.