الدكروري يكتب عن غزوة فتح مكة “جزء 7”

الدكروري يكتب عن غزوة فتح مكة “جزء 7”
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء السابع مع غزوة فتح مكة، فنصح علي بن أبي طالب أبا سفيان أن يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما دخل إخوة يوسف على يوسف، فقالوا له ” تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين” ففعل أبو سفيان، ورد عليه النبي صلي الله عليه وسلم ” لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين” وظل الجيش يسير إلى أن وصل إلى منطقة فيها عين ماء تسمى الكديد، أفطر عندها الرسول صلي الله عليه وسلم والصحابة، لأنهم كانوا صياما، وأكمل الجيش سيره إلى أن نزلوا بوادي فاطمة عشاء، وأوقدوا النيران وعين الرسول صلي الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الحرس، وخرج العباس رضي الله عنه على بغلة النبي صلي الله عليه وسلم ليرى أمر قريش، فوجد أبا سفيان خارجا يتجسّس الأخبار.
فأخذه العباس إلى معسكر المسلمين، وحينما رآهم عمر أراد قتل أبا سفيان، إلا أن العباس أجاره، وحضر أبو سفيان إلى النبي صلي الله عليه وسلم وأنكر عليه النبي صلي الله عليه وسلم بقاءه على الكفر، فأسلم أبو سفيان، وقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يا عباس ” احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها ” وقد انطلق أبو سفيان بعد ذلك ينادي في أهل مكة محذرا لهم بأنه لا طاقة لهم بالجيش القادم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وسار رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى وصل إلى ذي طوى، وفيها قسم الجيش فوضع القائد خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وأمره بالدخول إلى مكة هو ومن معه من أسفل مكة إلى أن يلاقوه عند الصفا، ووضع الزبير على المجنبة اليسرى، وأمره حينما يصل إلى الحجون أن يغرس رايته ويبقى فيها.
وقد دخلت كتائب المسلمين كل من وجهتها التي حددها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فدخل خالد مكة وحصل قتال بالخندمة تم قتل فيه بعض المشركين، واستشهد فيها عدد من الصحابة إلى أن التقوا مع النبي صلي الله عليه وسلم عند الصفا، وغرس الزبير لواء رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحجون عند مسجد الفتح مُنتظرا إلى أن وصل إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم، وكان ذلك يوم الثلاثاء، في السابع عشرمن شهر رمضان، ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف مثلا من أروع أمثلة المروءة والشهامة، وكذلك من أروع أمثلة التجرد لله والحرص على الدعوة، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يتحاور مع أبي سفيان بن حرب بطريقة إقناعية فيها البحث عن الحجة والدليل، مع أن السيف كان الحل الأمثل عند عامة القواد والزعماء.
وقد أجاب أبو سفيان بن حرب إجابة غير شافية لا تدل عن قناعة كاملة بتوحيد الله، ولكنه على كل حال لم يرفض، لكن عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمانه بنبوته صرح أبو سفيان أنه ما زال يشك في هذا الأمر، وهنا هدده العباس رضي الله عنه بأن قتله أصبح وشيكا، ولا يحفظ دمه إلا الإسلام، فأسلم عندئذ أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه، وإن الذي فعله العباس رضي الله عنه ليس إكراها في الدين، بل هو رحمة بأبي سفيان، ورحمة بكل قريش، فإن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد، ولا ترفضه أعراف الدول لا في القديم ولا في الحديث، فهو يصنف في القانون الدولي الحديث على أنه مجرم حرب لأنه قام بتدبير منذ سنتين محاولة قتل جماعي لأهل المدينة المنورة، ونقض منذ أيام قليلة عهدا بينه وبين المسلمين.
راح ضحية نقضه عدد من الرجال والنساء قتلى، بل إن الذي يمكن أن يتوقعه أي متابع للأحداث أن يرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام أبي سفيان في هذا الموقف، ويظن أنه ما فعل ذلك إلا تقيه، وخوفا من القتل ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُظهر شكا في إيمان أبي سفيان، بل قَبل منه ببساطة، ولم يناقشه أو يستوثق منه، بل عفا عنه في لحظة واحدة، ولقد تناسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة واحدة كل الذكريات المؤلمة، والجراح العميقة ، فقلبه صلى الله عليه وسلم لا تغزوه الأحقاد، ولا سبيل للشيطان عليه، ولو انتهت القصة عند هذا الحد لكانت آية من آيات العفو والتسامح، لكن الذي حدث بعد ذلك يتسامى ويرتفع فوق درجة الأخلاق التي نعرفها، فلا يمكن أن يفسر إلا بأنه صلى الله عليه وسلم نبي كريم.