المخرج بيتر تكلا: صوّرنا مشاهد الخطف والقتل… فانهارت إنسانيّتنا قبل أن تلتقطها الكاميرا! (خاص)
حوار -الكاتب الصحفي عمر ماهر
في عالمٍ أصبح فيه الواقع أكثر قسوةً من الخيال، وأضحى الحلم بالهجرة مجرد قفزة في الفراغ، يظهر اسمٌ يعلو على الضجيج، ويخرج من رحم الصورة حاملاً على كتفيه ثقل الإنسان قبل الفن… مخرج لم يكن غايته تسلية العيون، بل إيقاظ الضمائر، ولم يرَ في الكاميرا أداةً للعرض، بل سلاحًا في وجه التجاهل، وعدسةً ترصد الوجع وتصرخ به. مخرج ليس من أولئك الذين يلاحقون الجوائز في المهرجانات، بل يلاحق الحقيقة حيثما اختبأت، وينبش في قلب المأساة حيث اختنقت الحكايات.
إنه المخرج الذي لا يصنع أفلامًا بقدر ما يصنع تجارب وجودية، يضعك داخل المشهد لا كمشاهد، بل كإنسان مسؤول أمام مشاهد الألم والفقد والانكسار. في فيلمه “٤٠ يوم”، لم يختبئ خلف ديكور أو مؤثرات، بل واجه الصحراء، والجبال، والليل، والعطش، والخوف، والرصاص، ووجوهًا مُنهكة من الرحلة والخذلان. صنع عملاً فنيًا أقرب ما يكون إلى تحقيق صحفي بصري، أو إلى شهادة موثقة على صفحة سوداء من التاريخ الحديث… تاريخ الهجرة غير الشرعية.
“٤٠ يوم” لم يكن مشروعًا فنيًا فحسب، بل كان غوصًا في أعماق سؤال: لماذا يهرب الإنسان من وطنه؟ ولماذا يختار أن يسلك طريق الموت بحثًا عن الحياة؟ ولماذا تلوذ القلوب بأحلام الحدود، رغم علمها المسبق بأن البحر لا يرحم، والصحراء لا تغفر، والمهرب لا يعرف الرحمة؟ هذه الأسئلة لم يجب عليها الفيلم بلغةٍ مباشرة، ولم يسعَ إلى إصدار أحكام جاهزة، بل سلّط الضوء على جراح مفتوحة، وترك للكاميرا أن تكون مرآةً لوجوهٍ تنزف، لأصواتٍ تنادي، ولحكاياتٍ كادت أن تُنسى.
ولأن المخرج لا يرى نفسه صانعًا للصورة فحسب، بل شاهداً على الحقيقة، فإن “٤٠ يوم” تحوّل تحت يديه إلى محكمة إنسانية مفتوحة. لا يوجد قفص للاتهام، بل هناك شريط حياة يُعرض، وعلى المتلقي أن يُصدر حكمه – لا على الشخوص، بل على الواقع بأكمله. لقد خاض تجربة لا تشبه غيرها، وواجه لحظاتٍ لم تُدرَّب عليها الكاميرا، ولا تُدرَّس في معاهد الإخراج: لحظات الانهيار الإنساني، حين تتماهى العين خلف العدسة مع عين الضحية الحقيقية، حين يمتزج التمثيل بالحقيقة، والصورة بالدمع.
إن الحديث عن هذا المخرج لا يكون بفصل الفن عن الإنسان، بل بفهمه كصوتٍ يحمل ألمًا جماعيًا، ويسير عكس التيار، في زمن اختلطت فيه الحقيقة بالدعاية، والواقع بالزيف. هو لا يُجمّل ولا يُشوّه، بل يُجسّد. لا يُدين ولا يُبرّئ، بل يُسلّط الضوء. هو، ببساطة، ضميرٌ سينمائيّ يكتب بالضوء ما فشلت السياسة في قوله، وما سُحق في زوايا الإعلام، وما سُتر عمدًا في الملفات الدولية.
وإذ نقرأ أجوبته الآن، لا نتلقّى تصريحات مهنية عابرة، بل نُصغي إلى شهادة حية من فنانٍ وقف على حافة الموت مع أبطاله، وسافر معهم داخل جغرافيا الحلم المحطم، ولم يكتفِ بتصوير النكبة… بل حملها. مخرج يرفض التلميع كما يرفض التشويه، ويؤمن بأنّ الفيلم الجيد لا يُبرِّر، ولا يُهاجم، بل يطرح الأسئلة التي لا يجرؤ كثيرون على طرحها.
في هذا الحوار الخاص، يكشف المخرج عن كواليس “٤٠ يوم” من الداخل، لا من حيث الإضاءة أو الزوايا، بل من حيث الألم، والتحدّي، والانهيار، والموقف. يتحدّث كمواطن قبل أن يتحدّث كفنان، ويخاطب الوجدان لا الشاشات. فهنا، لا مجال للتزيين، بل للحقيقة، بكل قسوتها… وضرورتها…….أنه العالمي والاسطورة بيتر تكلا
1. هل فيلم “٤٠ يوم” محاولة لتبرير الهروب… أم إدانة له؟
فيلم “٤٠ يوم” ليس تبريرًا للهروب، ولا إدانةً له. نحن ضدّ الهجرة غير الشرعية تمامًا. من أراد أن يهاجر، فليكن ذلك عبر الطرق القانونية، فالهجرة غير الشرعية تُشكّل خطرًا حقيقيًا على حياة الإنسان، وقد تُحوِّل الحلم إلى كابوس دائم.
2. كيف ترى الهجرة غير الشرعية؟ هل تعتبرها حقًّا إنسانيًا… أم خيانة للوطن؟
الهجرة غير الشرعية لا يمكن تصنيفها كحق مكتسب، ولا يمكن اعتبارها خيانة للوطن. بل أراها أشبه بالموت البطيء؛ إذ يقتل الإنسان نفسه دون أن يدرك فداحة ما يقوم به. الهجرة بحدّ ذاتها ليست فعلًا سلبيًا، لا سيما إذا كان الحديث عن دول مثل الولايات المتحدة – بلد الأحلام كما يراه الكثيرون – ولكن بلوغ تلك الأرض يجب أن يتم بطريقة شرعية، لا برحلة تهدد الحياة.
3. هل مرّت لحظة خلال التصوير انهرت فيها إنسانيًا؟ لحظة شعرت فيها أنك غير قادر على الفصل بين الكاميرا والوجع؟
بالطبع. من أصعب اللحظات كانت أثناء تصوير المشاهد الجبلية، والمبيت في الصحراء، ومشاهد الخطف والقتل. لقد عانى الممثلون كثيرًا، وكنت أردد دومًا لهم: “إذا كنتم تعبتم من تمثيل المشهد، فكيف كانت معاناة أولئك الذين عاشوا هذه التجربة فعليًا؟” عندما يضع الممثل نفسه في مكان هؤلاء، يشعر بكل ذرة من معاناتهم. كان ذلك مرهقًا نفسيًا لنا جميعًا.
4. لو طلبت أمريكا سحب الفيلم بحجّة تشويهه لصورتها الحدودية… ما ردك كمخرج؟ وكمواطن؟
الفيلم لا يُشوّه صورة الولايات المتحدة، ولا صورة مصر. لم نتناول السياسة في العمل لا من قريب ولا من بعيد. ما قدمناه هو طرح إنساني بحت. نحن نرفض الهجرة غير الشرعية لأنها تمثل خطرًا على الإنسان ذاته، لا لأنها ضدّ دولة بعينها.
5. هل واجهت أي ضغوط أو رقابة تطلب منك تلميع أو تشويه جنسية معينة؟
أبدًا، لم تطلب الولايات المتحدة سحب الفيلم، ولم تفرض أي قيود على حرية التعبير الفني، وهذه من الجوانب التي أقدّرها في عملي هناك. وإن حدث ضغط في أي وقت مستقبلي، فإنني كمخرج سيكون ردّي واضحًا: نحن نعرض الواقع من دون انحياز إلى أي سياسة. رسالتنا إنسانية في المقام الأول. وبصفتي مواطنًا، لا أرغب أن يضيع أي إنسان حياته في سبيل حلم قد لا يُدركه أبدًا… فالكثيرون يموتون قبل أن يبلغوا ما طمحوا إليه أصلًا.
6. بعد “٤٠ يوم”… هل تعتبر نفسك مجرد مخرج يصوّر؟ أم أصبحت شاهدًا على جريمة إنسانية؟
أرى أن مهمتي كمخرج هي تقديم صورة واقعية ومحايدة، أستخدم فيها جميع أدواتي الفنية – من دراما وتمثيل وصورة وموسيقى وحبكة سردية – ليس فقط لعرض قصة، بل أيضًا لإيصال رسالة تحذيرية للمجتمع من مخاطر الهجرة غير الشرعية، وما تسببه من مآسٍ.
7. هل من جديد ترغب بالإعلان عنه؟
أنا بطبعي أميل إلى الأفلام التي تحمل رسالة وهدفًا واضحين، وأفضّل الاشتغال على مشاريع يكون فيها الفن وسيلة للتوعية لا الترفيه فقط. بعد “٤٠ يوم”، أدركنا جميعًا أننا شهود على جرائم إنسانية تحدث كل يوم. وبإذن الله، سأستمر في تقديم أعمال قوية تحمل رسائل إنسانية هادفة تخاطب ضمير المجتمع.