أخبار الفن

جمال عبد الناصر يُشعل التريند في تركيا … والجمهور يخطئ البطل الحقيقي لشخصية هزار شاد أوغلو في” زهرة الثالوث

جريدة الأضواء المصرية

جمال عبد الناصر يُشعل التريند في تركيا … والجمهور يخطئ البطل الحقيقي لشخصية هزار شاد أوغلو في” زهرة الثالوث”

الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر 

في ربيع تلفزيوني هادئ، لا توحي أيامه بأي زلزال قادم، دخل المسلسل التركي “زهرة الثالوث” إلى شاشات العرب عبر قناة Mix، محمولًا على أكتاف الدبلجة العربية التي لطالما كانت نافذة عبور المشاعر. وبين طيات الحكاية الثرية التي تنسجها الدراما التركية ببراعة، ظهرت شخصية ثقيلة الحضور، عميقة الطيف، مشتعلة بالمبادئ والانكسارات. “هزار شاد أوغلو” لم يكن مجرد شخصية في دراما عائلية، بل بدا كأنه شخصية حقيقية خرجت من كتاب حياةٍ كتبه الزمن بيدين داميتين.

ومن هنا، بدأ الالتباس الكبير. فالجمهور العربي – بخاصة المصري واللبناني والسعودي – لم ينتظر كثيرًا قبل أن يسأل ويؤكد في آن: هل هذا هو الفنان المصري جمال عبد الناصر؟ لا بد أنه هو! هذه الملامح الحادة، النظرة الواجمة، الصوت العميق، الوقار الحزين، والرجولة غير المزعومة. حتى حين نطق الرجل بالتركية في الأصل، جاءت الدبلجة بصوت ممثل عربي يستخدم ذات النبرة التي اشتهر بها جمال في أدواره السابقة. بدا كل شيء وكأن العالم اجتمع ليخلق هذا التوأم الغامض، الذي هزّ الإنترنت، وأشعل محركات البحث.

حين يشبهك الغريب… وتصبح بطلاً دون علمك

ما حدث مع جمال عبد الناصر كان أقرب ما يكون إلى اللغز. إذ لم يشارك فعليًا في المسلسل، لم يُذكر اسمه، لم يُصوّر في إسطنبول أو يوقّع عقدًا مع شركة إنتاج تركية. لكنه تصدّر المشهد، وغدا حديث السوشيال ميديا، وأصبحت صور هزار شاد أوغلو تُنشر على حسابات معجبيه من مصر إلى الخليج، ممهورة باسم “جمال عبد الناصر”، مرفقة بتعليقات الحب والإعجاب والإشادة بالتمثيل الرائع، وكأن الأمر حقيقة لا تحتمل النقاش.

فما الذي جعل الناس يربطون بين جمال وهذه الشخصية؟ هل هو الشبه الجسدي فقط؟ أم أن هناك ما هو أعمق بكثير؟

لنُمعن النظر. جمال عبد الناصر، الممثل، لا يُشبه سواه. ليس النجم الذي تبحث عنه في الإعلانات، ولا ذلك الذي تقف وراءه حملات تسويقية كبرى، لكنه الفنان الذي يُشبه الأدوار القوية، الناضجة، الصلبة من الداخل. أداؤه يُشبه حطب الشتاء: صامت لكنه دافئ، ثقيل لكنه ضروري، لا يُحترق إلا ليُدفئ غيره. وعلى مدار سنوات، عرفه الجمهور كوجه لا يبتسم كثيرًا، لكنه يُخبرك كل شيء بنظرة. مقلّ في الظهور، غزير في التأثير. لا يصرخ… لكنه يصل.

وحين رأى الناس شخصية “هزار” – الرجل الممزق بين الحب والشرف، العائلة والحقيقة، الماضي والحاضر – لم يجدوا في ذاكرتهم ممثلًا يحمل كل هذه الأبعاد المركّبة ويجيد ترجمتها ببراعة، سوى جمال عبد الناصر. فراحوا يُسقطون ملامحه عليه، يُحمّلونه المشهد، ويمنحونه شرف التمثيل.

جمال عبد الناصر… الرجل الذي سبق أن مثّل هذه الشخصية ألف مرة

حين نعود لأعمال جمال، نكتشف شيئًا عجيبًا: لقد قدّم، ولو بأسماء مختلفة، نماذج مشابهة لشخصية هزار شاد أوغلو عشرات المرات. لعب أدوار الأب المضحي، الزوج المجروح، الرجل الطيب الذي لا يستطيع النجاة من شرور العائلة، الهادئ الذي يُهدد صمته العاصفة. تمثيله دائمًا يرتكز على الداخل، على الألم المكبوت، على القرار الصعب، على النظرة التي تسبق الكلمة.

جمال عبد الناصر… الحكاية اللي ما بتنتهيش

في زحمة الوجوه، وفي زمن تبدّلت فيه المعايير، بيضلّ في ناس متل الجبل… ثابتين، راسخين، ما بيتغيّروا. بيطلّوا علينا من الشاشة مو بس كممثلين، بل كرموز، كحكايات عايشة بوجداننا وذاكرتنا الجماعية. وجمال عبد الناصر… هو واحد من هالرموز. مش مجرّد اسم، ولا مجرّد ممثل… هو مدرسة، هو مسرح كامل بيحمل ملامح مصر، ريحة ترابها، صوت شوارعها، وجع ناسها، وضحكة أولادها.

مين قال إن الفن وجع عابر؟

ومين قال إن الممثل بيخلص دوره لما تطفى الكاميرا؟

جمال عبد الناصر كسر هالقواعد كلها. دخل البيوت بعيونه اللي بتحكي قبل ما ينطق، بصوته اللي بيزرع ثقة، بوقاره اللي بيخليك تصدّق إن في ناس بعد فيهم نُبل، بعد فيهم شرف، بعد فيهم وفا.

من أول مشهد… حسّيته مختلف. مش تمثيل، لأ، كان حقيقة عم تمشي على رجلين. في زمن كان فيه الكل بيدوّر على الشهرة، هو كان عم يدوّر على القيمة. كان بيختار أدواره متل اللي بينقي كلماته، كأنه شاعر، كأنه فيلسوف بيعرف إنه كل مشهد بيمرق مش بس بين سطور سيناريو، بل بيدخل الذاكرة.

بيحمل بكتافه إرث جيل كامل، وبيقدّم فنه بكرامة الجندي، بإيمان الأب، وحنان الصديق. جمال عبد الناصر مش بس فنان… هو واحد من الناس اللي لما بيوقف على المسرح أو قدّام الكاميرا، بتحس إنو البلد واقفة وراه، إنو النيل بيصفّقله، وإنو كل حارة وشارع شايف حاله فيه.

بيمثل… وبتبكي.

بيصرخ… وبتحس بدفء حضن أم.

بيسكت… وبيحكي أكتر من ألف كلمة.

بملامحه، بصمته، بحضوره، بيرسم خارطة لمصر اللي نحنا منحبها: مصر الطيبة، مصر الجدعة، مصر اللي فيها الرجّالة رجال والكلمة عهد.

ما كان يوم ممثل بيبيع نفسه للرخيص، ولا لعب أدوار لمجرد يقال عنه “نجم”، لأنو هو النجم من غير ما يحكي، من غير ما يتصنّع، من غير ما يعمل ضجة. نجم بيضيّي الشاشات بهدوء، وبيعلّم أجيال إنّ العظمة مش بالصراخ، بل بالثبات… وإن الكاريزما الحقيقية مش بحاجة فلاتر ولا بهرجة، لأنها بتجي من جوّا.

وعلى قد ما جرّب الزمن يكسّر صورته، كان هو عم يبنيها أكتر. بيشيل سنين التعب، وشيل همّ الدور، وبيكمّل، لأنو بيعرف إنو في ناس عم تتعلّم منه، وفي عيون بتستناه، وفي بلد بتفتخر فيه.

جمال عبد الناصر هو ابن الفن الصادق، وأبو المبدأ، وأخ الموهبة النادرة. هو اللي إذا وقف بمشهد، بيرتّب الفوضى، وإذا مرق بلقطة، بتصير اللقطة تاريخ. حضوره بيخلق لحظة، وصوته بيخلي الكلام يرنّ براسنا متل جرس الحقيقة.

هو ما بيتكرّر، مش لأنو ما حدا عنده موهبة، بل لأنو ما حدا عنده الصدق اللي عنده، ولا الرقي اللي فيه، ولا الكاريزما اللي بتنحفر بذاكرة الناس بلا استئذان. وهو مش بس عايش في أرشيف الشاشة، هو عايش في قلوبنا، في وجداننا، في حنيننا لأيام الفن الأصيل.

ويمكن بييجي يوم يتغيّر فيه كل شي…

لكن اسم جمال عبد الناصر رح يضل متل النور العالي، متل طيف الورد على الحيطان، متل صوت الأمان وقت الليل بيطوّل.

لأنه باختصار… هو مش مجرد فنان.

هو فن… بحد ذاتو.

سرحات توتوملير… النجم الذي جسّد شخصية، فصنعت نجومية غيره

بالطبع، لا يمكن إنكار أداء النجم التركي سرحات توتوملير، الذي قدّم شخصية هزار بشجن نادر. رجل خبير بالمسرح، ابن مدرسة العمق والبساطة، ممثل يتقن الصمت والنظر والحزن، يجيد بناء الشخصية من الداخل لا من المظهر. لكنه، دون أن يدري، منح جمال عبد الناصر فرصة ذهبية: فرصة أن يُشاهد عبر وجهه، أن يُحب من خلال تمثيله، أن يُكرَّم دون أن يظهر.

والأعجب من كل ذلك، أن توتوملير نفسه ربما لم يعرف حتى اللحظة أن ملايين العرب يظنون أنه فنان مصري يدعى جمال عبد الناصر. وأن صور شخصيته انتشرت في الشرق الأوسط تحت توقيع ممثل آخر، وأن ذلك الآخر صامت… يراقب… يبتسم بصمت.

في زمن التصنّع، لماذا اختار الجمهور جمال؟

لأن جمال لا يُشبه غيره. لأنه لا يُمثل ليُرى، بل يُمثل ليُحس. لأنه لا يصنع الحدث، بل يُصبح الحدث. لأن حضوره كفيل بأن يجعل أي شخصية حقيقية. ولأن شخصية “هزار شاد أوغلو” لم تكن لتقنعنا بهذا الشكل العميق، لولا أننا حملنا إليها جمال… بوجداننا، بذاكرتنا، بحنيننا إلى الممثل الأصيل.

لقد صدّقناه لأنه كان دائمًا موجودًا بداخلنا. لأن الفن ليس مجرد اسم، بل حضور. لأن الشاشة قد تخدعك، لكن القلب لا يخطئ.

هل آن الأوان؟

آن الأوان أن يُنصف هذا الفنان. أن يخرج من الظل إلى الضوء، لا كمجرد ردّ اعتبار، بل اعتراف بأثره. آن الأوان أن يُكتب له عمل حقيقي يضعه في الصدارة، لا في الخلفية. أن يُصاغ مسلسل عربي تُبنى فيه الشخصية من لحم ودم، على هيئة جمال عبد الناصر، من دون أن نضطر لاستعارته من عمل تركي، أو أن نراه في وجه آخر.

آن الأوان أن نفهم أن الممثل الحقيقي لا يموت، حتى لو غاب. وأن الفن العميق ينهض من تحت الركام، ليقول كلمته متأخرًا… لكنه بصوت لا يُنسى.

خاتمة: الفن لا جنسية له… والقلب لا يُخطئ الوجوه

هذه القصة ليست فقط عن جمال عبد الناصر، ولا عن هزار شاد أوغلو، ولا عن مسلسل أو تريند. إنها عن الإدراك البشري، عن إحساسنا الداخلي الذي يُميز الحقيقة من الادّعاء، عن الحاجة الدائمة إلى ممثل يُشبهنا، يحمل قلقنا، يعبّر عن صراعاتنا.

وقد اختار الجمهور العربي جمال عبد الناصر، لا لأن اسمه كان مكتوبًا، بل لأن ملامحه كانت محفورة في الذاكرة. فظنوه هو، تمنّوه هو، ورأوه هو.

ولعل أجمل أدوار الفن، أن يجعلنا نحب فنانًا حتى لو لم يكن موجودًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى