مقال

قلبٌ ذو شطريْن

قلبٌ ذو شطريْن

جلسَ يعقوبُ إسحاق صباحًا قبالة الحاخامِ الأعظمِ في أكبر معبدٍ يهوديّ على أرض إسرائيل -وكان مرتديًا ثوباً أسود وقبعة سوداء، وحول عنقه لفافة بيضاء طويلة- ليؤدّي صلاته، وفي كلّ مرّة يقولُ له الحاخام: «اقرأ صلاتك بنفسك.»
ويردُّ عليه يعقوب في كلِّ مرّةِ: «بل أودُّ أن أسمعها مِن فمكَ سيدي الحاخام الأعظم.»
فلم يجد الحاخام بدّاً من تلبية رغبته.
فيقول له: «ردّدْ ورائي يا وزير إسرائيل.»
فيعترض عليه قائلا: «ويقولُ أنا يعقوب فقط.»
فيقول له: «ردّدْ ورائي يا يعقوب.»
فتلا مِنَ التوراةِ: «اسمعْ يا إسرائيل الرّب إلهنا ربٌّ واحدٌ، فتحبّ الرّب إلهك من كلِّ قلبك، ومِنْ كلِّ نفسك ومِن كلِّ قوتك.ولتكنْ هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك.وقصّها على أولادك وتكلّمْ بها حين تجلس في بيتك حين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم ، واربطها علامة على يدك ، ولتكن عصائب بين عينيك ، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك»
يقولها فقرة فقرة ويردّد كذلك خلفه فقرة فقرة كأنّه يلقّنه، وبعد الانتهاء يصرُّ يعقوبُ على تلثيم رأس الحاخام.
بعدها تناول يعقوب لفائف التوراة وفيها جميع الأسفار الخمسة يقرأ بعضًا منها باللغة العبريّة كما هي مكتوبة، ثُمَّ يرفعها بيده، وبعد القراءة تُطوى اللفائف وتُحفظ في كسائها ثمّ تُعاد إلى مكانها. وبمجرد أن تُطوى اللفائف ينزوي في المعبد ليحدّثَ نفسه كالمعتاد .
وكان في هذا اليوم بالغ الأسى والحزن على حال اليهود الذي لا يستقرّ لهم مقام، فالرئيس الأمريكيّ لمْ يؤازرهم بقوّة كسابقيه من الرؤساء، وميوعة هذه المؤازرة جعلته يفكر كثيرًا حتى قاده تفكيره إلى الماضي السحيق؛ ماضي بني إسرائيل مع فرعون مصر.
فتذكّر محاولة فرعون مصر لاستئصال شأفتهم، فقال لنفسه: الحمد لله أن أرسل إلينا ربنُا موسى فأنقذنا منه.
كما تذكّر التيه، تيه أربعين سنة في الأرض، ولقد توّهته هذه الذكرى فشعر بأنّه لقيط رغم أنه وزير في دولة إسرائيل.
وتذكّرَ بختنصر بابل وكيف تعامل مع اليهود على أرض فلسطين، كيف اضطهدهم واستعبدهم وقتلهم ومزّق توراتهم فضلا عن تخريبه لبيت المقدس، فقال بازدراء وغضب: ألَا لعنة الله على العراق.
ثُمّ أمعن في الذكرى الأليمة لحال وطنه عندما أحرقهم هتلر، وفتكت هذه الذكرى بقلبه وكأنّ هناك مَن قذفه بشهب النار، وبالفعل عند هذه الذكرى ارتفعتْ درجة حرارة جسده وبدا ذلك من خلال العرق الذي ألجمه تمامًا حتّى إنّه بلّل ثيابه، ثمّ قال في نفسه متبسمًا: ولولا ستر الله لاستأصلهم من جذورهم ولكنّ الله أراد بقاءهم لأنّهم أبناؤه وأحباؤه، فقادهم ذكاؤهم ألّا يتجمعوا في أرضٍ واحدةٍ لأنّ العالم كلّه للأسف يتربّص بهم ويكرههم. وجرى بخاطره صفحات تاريخ اليهود السوداء في الحقبة الرومانية، حيث إنهم كانوا مذلولين لهم حتى جاء الغزو الإسلاميّ وأخذَ منهم الجزية، وبسخرية قال: يأخذ منا بدلًا أنْ يدفع لنا!. وجال بخاطره أيضا تشتتهم في أمريكا ودول أوروبا؛ ارتطمتْ أسنانه فسُمع صكيكها وقال: ودول أوربا المسيحيّة التي ترى أنّ التوراة ألدُّ أعدائها، اضطهدوا واستعبدوا معتنقيها طوال تاريخهم العتيق حتى سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف.
وأخيرا قال في نفسه: لابدّ أن يخفّ الحمل نهائيًا، لابدّ أن تركع أوروبا لدولة إسرائيل.
ثُمّ اتّجه ببصره إلى أعلى باكيًا وقال: أنحن أبناء الله وأحباؤه فعلاً !. أنحن أسياد العالم فعلاً! نحن عشنا عبر تاريخنا كلّه أراذل العالم. فلابدّ من الخلاص من هذه المسكنة والذّلّة، لابدّ أن نتقلّد السيادة على العالم كلّه بما فيهم أمريكا.
وظلّ شاردًا حتى جاءه الحاخام الأعظم فاستنبهه وقال له: «كنتُ أودّ أن أراك ولو مرّة واحدة مبتسمًا، دائمًا أرى وجهك كالحًا غضوبًا، وأحيانًا حزينًا شاحبًا، لا تخشَ على اليهود فهم أبناء الله وأحبائه فترفّق بنفسك.»
ثمّ تركه مستعبرًا ودعا له وبارك.
بقلمي: ابراهيم أمين مؤمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى