جنّات تُحلّق بعذوبتها في سماء نوستالجيا فورها: سيدة الحنين وأميرة المسرح تخطف القلوب وتُبكي الذكريات
الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
كأنّ الزمن توقف، وكأنّ المشاعر استعادت أنفاسها، وكأنّ الحنين خفق من جديد بصوتٍ يعرف الطريق إلى القلب دون أن يُخطئ. هكذا كانت لحظة صعود المطربة جنّات إلى خشبة المسرح في “سوبر دوم جدة”، خلال ليلة من العمر حملت اسم نوستالجيا فورها. حضورها لم يكن عاديًا، بل كان وكأنّه دعوة مفتوحة إلى حضن الألفينات، إلى تلك الأيام التي كُنا نعيش فيها القصص البسيطة، ونحلم من أعماق القلب.
جنّات، بجمالها الهادئ، بابتسامتها الرقيقة، بطلتها التي تجمع الرصانة بالأنوثة، دخلت إلى القاعة كأنها نسمة من فصل الربيع. كلّ من رآها شعر بشيء ما يتحرّك بداخله، شيء يشبه الأمان، يشبه البكاء الجميل الذي يريح القلب من دون أن ينهكه. بفستانها الأنيق الذي اختارته بدقّة، وبلغة جسدها الراقية، بدت كأنها سفيرة للحنان، لا مطربة فقط.
صوتها… ذاكرة تُحكى وليست مجرد نغمة
حين غنّت، لم يكن الغناء مجرد نغمات وألحان، بل سرد لذكريات محفورة في أرواحنا. كل جملة نطقتها كانت تحمل شوقًا دفينًا، وكل نغمة مرّت من بين شفتيها بدت وكأنها توقظ في الناس قصصًا نامت منذ زمن. لا حاجة للتكلف، لا حاجة للصراخ أو الاستعراض، صوت جنّات ناعم كنسيم الصباح، قوي كقلب أم، صادق كاعتراف من شخص اشتقنا له.
الجمهور الذي فاق العشرة آلاف، تمايل مع صوتها وكأنهم جميعًا يتشاركون ذكرى واحدة. تفاعلهم كان راقيًا، متناغمًا، فيه احترام واندماج، تمامًا كأدائها الذي بدا كأنه لوحة انطباعية مرسومة على أنغام الموسيقى. كانوا يبتسمون تارة، يغمضون عيونهم تارة أخرى، ويمسحون دموعهم في لحظات معيّنة، وكأنّها استطاعت أن تلمس أماكن لم يلمسها أحد.
هي ليست مطربة فقط… بل روح ناطقة
جنّات على المسرح كانت أكثر من فنانة. كانت ابنة اللحظة، أم الذكرى، أخت القلب. كانت صوت الحب في زمن ازدحم بالصوت العالي. حضورها لم يكن صاخبًا، لكنه كان طاغيًا. من دون استعراض، من دون تصنّع، سيطرت على القلوب بأسلوبها السهل الممتنع. هذا النوع من النجومية لا يُشترى ولا يُصنع، بل يُولد مع صاحبه، ويكبر معه بصدق.
رقيها أبهر الحاضرين… وهمساتها أنعشت الأرواح
في لحظة مؤثّرة، توجّهت جنّات إلى الجمهور بكلمات شكر دافئة، قالتها ببساطتها المعتادة، فصفّق لها الجميع من القلب. شعرت أنّها تغنّي من أجل الناس، لا أمامهم. بينهم، لا فوقهم. تلك الإنسانية التي تميّزها، جعلتها قريبة من الكلّ، حتى من لم يعرفها سابقًا شعر بأنه يعرفها منذ زمن.
وما إن أنهت فقرتها، حتى بقيت ابتسامتها محفورة في العيون، وصوتها في الذاكرة، وأثرها في الأرواح. انسحبت بهدوء كما دخلت، وكأنّها لا تريد أن تزعج لحظة السحر التي صنعتها. لكنها تركت خلفها شعورًا نادرًا: بأنّ الطرب الحقيقي ما زال ممكنًا، وأنّ الذوق لم يمت، وأنّ الأصوات النقية قادرة أن تُعيد ترتيب الوجدان.