في صباح يوم الخامس من يونيو لعام 1967، وفي تمام الساعة السابعة صباحاً، كنت أنا الملازم أول سمير فرج، ضابط استطلاع الكتيبة الثالثة مشاة، أؤدي مهمتي على خط الحدود، في منطقة “الكونتيلا”، في سيناء، حيث يقع أمامي، مباشرة، على بعد ما لا يزيد عن كيلو متر، برج المراقبة الإسرائيلي، وعلى الحدود يُرفع العلم الإسرائيلي.
ووفقاً لتعليمات قائد الكتيبة، التي تلقيناها في الليلة السابقة، كنا في انتظار وصول أفراد التعبئة، من القاهرة، في صباح ذلك اليوم، لتنفيذ خطة توزيعهم على وحدات الكتيبة، لتكتمل قوتها استعداداً لأي هجوم، إذ أن الكتيبة، في أوضاع السلم، لا تكون مكتملة العدد، ويلزم دعمها بجنود الاحتياط.
وفي صباح ذلك اليوم، تحركت مسرعاً، ومعي ضابط الصف “صول الكتيبة”، لموقع وصول أفراد التعبئة، لتنفيذ التعليمات الصادرة بشأن توزيعهم، ووجدنا، بالفعل، عدداً من العربات، القادمة من القاهرة، تحمل أعداداً من جنود الاحتياط، إلا أننا فوجئنا بوصولهم في حالة سيئة؛ فجميعهم، دون استثناء، يرتدون الملابس المدنية، ومعظمهم ممن جاء من القرى، يرتدي الجلباب، فضلاً عما علمناه عن عدم تناولهم للطعام، منذ عدة أيام.
فأبلغت صول الكتيبة بأنني سأتولى تدبير وجبات لإفطارهم، بينما يقوم هو بتسجيل الأسماء والبيانات والتخصصات. وبالفعل، ذهبت إلى مطبخ الكتيبة، وجمعت ما تيسر من الطعام، لتعويضهم عن تعب الأيام الماضية، ومشقة السفر الطويل. ولما عدت ومعي الطعام، كان الصول قد أنهى تسجيل البيانات اللازمة، فتوجهنا إلى قائد الكتيبة، العقيد محمود عمران، لتسليمه التقرير، الذي كان، في الحقيقة، صادماً؛ حيث لم يكن بين أفراد التعبئة أي جندي مشاة، ولم يُزود أي منهم بسلاح.
لازلت اسمع كلمات، ونبرة صوت، العقيد محمد عمران عند اطلاعه على التقرير، عندما صرخ قائلاً، “معقولة؟! كتيبة مشاة يُرسل لها أفراد تعبئة ليس بينهم جندي مشاة واحد، وغير مسلحين؟!” وأضاف الصول عدم ارتدائهم للملابس العسكرية، وهو ما يستلزم الاتصال بقيادة اللواء لتدبير الزي العسكري اللازم. وبينما شرعنا في إتمام الإجراءات اللازمة، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً، وفجأة أبلغنا عامل الإشارة برسالة من القيادة، بأن العدو الإسرائيلي قد بدأ تنفيذ ضربة جوية ضد مصر.
وهكذا بدأت “حرب الأيام الستة”، كما أطلقت عليها إسرائيل، وسُجلت، لاحقاً، بذلك الاسم في المراجع والمؤسسات العسكرية في العالم، بينما وصفناها، في مصر، بمصطلح “نكسة 67″، بعدما شنت إسرائيل ضربة جوية، مفاجئة، على المطارات، والقواعد الجوية المصرية، ووحدات الدفاع الجوي، وتمكنت من تدمير أكثر من 90% من سلاح الجو المصري وهو على الأرض، فضلاً عن هجوم المقاتلات الإسرائيلية على القوات البرية المصرية.
كانت تلك الأحداث، بداية لسلسلة طويلة من الدروس المستفادة، فبعد الفشل في خطة التعبئة والاحتياط، التي كانت أحد عوامل الهزيمة في يونيو 1967، أدركت القيادة المصرية أن استعادة الثقة بالنفس، ورفع الروح المعنوية لأفراد الجيش، هما أولى الخطوات نحو الطريق الصحيح. فشهدت القوات المسلحة المصرية تحولاً جذرياً في تدريب جنودها، إدراكاً من القيادة العسكرية أن الجيوش القوية لا تعتمد على العدد، فحسب، وإنما يساويه في الأهمية الكفاءة والتأهيل العلمي.
فبعدما كان الجندي المصري يُستدعى من القرى والنجوع، دون تعليم أو تدريب كافٍ، بما أثر سلباً على جاهزية القوات في مواجهة التحديات، والتهديدات، كانت هزيمة ٦٧ سبباً في بدء مرحلة التطوير، التي ركزت على تجنيد الشباب المتعلم، من ذوي المؤهلات العليا، وتوفير برامج تدريبية متقدمة لهم. وشهدت الكليات والمعاهد العسكرية تطوراً كبيراً في مناهجها، لتشمل علوم الإدارة والهندسة والتكنولوجيا، مما أفرز جيلاً من الضباط والجنود القادرين على التعامل مع أحدث التقنيات والأسلحة.
وبالاستفادة من دروس الماضي، أصبحت قواتنا المسلحة المصرية، اليوم، صاحبة واحدة من أفضل خطط التعبئة واستدعاء الاحتياط على مستوى العالم، بعدما كانت الريادة، في ذلك المضمار، لإسرائيل والدول الإسكندنافية. وهو ما يذكرني بفترة دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية، أن حضرت محاضرة لوزيرة الدفاع الدنماركية حول مشاكل الأمن القومي في العصر الحديث، تطرقت خلالها لموضوع التعبئة، وذكرت أن مصر، بعد الاستفادة من أخطاء 1967، أصبحت تمتلك أكفأ خطة تعبئة احتياط في العالم.
لم يكن هذا التحول وليد الصدفة، بل نتيجة لسياسات استراتيجية، استهدفت بناء جيشاً عصرياً، يعتمد على العلم والمعرفة، ويواكب التطورات العالمية في مجال الحروب والتقنيات العسكرية. وبفضل هذه الجهود، والسياسات الرشيدة، استطاعت مصر أن تعيد بناء قواتها المسلحة، وتحقق انتصارات عظيمة، أبرزها نصر أكتوبر 1973، الذي أعاد الكرامة للأمة العربية بأسرها. بل وأثبتت أن الجندي المصري ليس مقاتلاً باسلاً، فحسب، وإنما أيضاً مسلحاً بأحدث العلوم التكنولوجية المواكبة لعصره. ولعل أبرز الأمثلة، على تطور قدرات القوات المسلحة المصرية، خلال معارك حرب الاستنزاف، التي استمرت لمدة 6 سنوات متتالية، هو قدرة وحدات الدفاع الجوي المصري على ابتكار فكرة حائط الصواريخ، وتنفيذها، واستحداث القوات الجوية لدشم الطائرات في المطارات.
ومثلما نستمع لمقولة “كثرة السقوط تُعلم المشي”، فإن مرارة الهزيمة يوم 5 يونيو 1967، كانت هي الدافع والعزيمة للنهوض بجيش قوي، قادر على حماية حدودنا وأمننا القومي، وليظل، حتى يومنا هذا، درعاً حصيناً في مواجهة أي تهديد … حفظ الله مصر، وشعبها، وجيشها العظيم.