قبل ساعات من اعلان ترامب سلسلة الإجراءات الجديدة حول التعريفات الجمركية يكتب توماس فريدمان مقالا هاما جاء فيه:
الولايات المتحدة لم تعد الوجهة المفضلة للمستقبل، كما كانت خلال العقود الماضية، حيث تحولت الأنظار الآن نحو الصين. هذا التحول يعكس فقدان أمريكا لهيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية التي ميزتها منذ الحرب العالمية الثانية، ما يجعل صعود الصين أكثر وضوحًا في المشهد العالمي. في السابق، كان الحلم الأمريكي يتمثل في التقدم التكنولوجي والفرص الاقتصادية اللامحدودة، لكن هذا الحلم أصبح اليوم أكثر ارتباطا بالصين التي تنفذ خططا طويلة الأمد لجذب الاستثمارات والتفوق على منافسيها.
علي سبيل المثال، نجحت هواوي في تجاوز العقوبات الأمريكية المفروضة عليها منذ سنوات، حيث تمكنت من تطوير تقنيات متقدمة في مجالات عدة، أبرزها أشباه الموصلات والاتصالات والذكاء الاصطناعي. هذه الإنجازات تؤكد أن الصين لم تعد تعتمد على التكنولوجيا الغربية، بل باتت قادرة على الابتكار وإنتاج مكونات معقدة محليًا، وهو ما يحد من تأثير العقوبات الأمريكية عليها. رغم محاولات واشنطن منع وصول الشركات الصينية إلى التكنولوجيا المتقدمة، استطاعت هواوي إطلاق هواتف ذكية مزودة بشرائح متطورة، مما أثبت أن الصين قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال.
الصين تستثمر بشكل ضخم في الذكاء الاصطناعي، حيث يتم دمجه في مختلف القطاعات الصناعية، ما يمنحها ميزة تنافسية على الولايات المتحدة التي لا تزال تتخبط في تنظيم هذا القطاع. في مجالات مثل التصنيع والخدمات اللوجستية، استطاعت الشركات الصينية استخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف، في حين أن الشركات الأمريكية تواجه صعوبات تنظيمية وبيروقراطية تعيق انتشار هذه التقنية. مع تقدم الصين في هذا المجال، يتزايد القلق في واشنطن من أن الهيمنة التكنولوجية لم تعد أمريكية، وأن التفوق في الذكاء الاصطناعي سيمنح الصين الأفضلية في الاقتصاد العالمي.
تعاني الولايات المتحدة من تأخر شديد في تحديث بنيتها التحتية، حيث فشلت في إنشاء شبكة متطورة لمحطات شحن السيارات الكهربائية رغم الحاجة الملحة لذلك. في المقابل، تمكنت الصين من بناء أكثر من 100 ألف محطة شحن خلال عام 2024 فقط، مما يعكس الفرق الهائل في التخطيط والتنفيذ بين البلدين. هذا الفارق لا يقتصر على قطاع السيارات الكهربائية فحسب، بل يمتد إلى السكك الحديدية والطرق والموانئ، حيث تواصل الصين تنفيذ مشاريع عملاقة، بينما تتعثر المشاريع الأمريكية بسبب البيروقراطية وعدم الاستقرار السياسي.
الجدل السياسي في الولايات المتحدة أصبح منصبا على القضايا الثقافية والاجتماعية مثل حقوق المتحولين جنسيًا، بينما تركز الصين على تطوير اقتصادها وصناعاتها التكنولوجية. هذا التباين يعكس اختلاف الأولويات بين البلدين، حيث تنشغل واشنطن بمعارك داخلية لا تسهم في تعزيز قدرتها التنافسية على الساحة الدولية. بينما تستثمر الصين في الأبحاث العلمية والتطوير التكنولوجي، تهدر الولايات المتحدة طاقتها في صراعات أيديولوجية تزيد من الانقسام المجتمعي ولا تقدم حلولًا للمنافسة الاقتصادية مع الصين.
يعتمد ترامب على “التفكير السحري”، حيث يعتقد أن فرض التعريفات الجمركية وحده سيكون كافيا لإعادة التصنيع إلى أمريكا، دون وجود خطط متكاملة لتعزيز القدرة الإنتاجية. هذه السياسة تتجاهل حقيقة أن المصانع تحتاج إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتعليم والبحث والتطوير، وهي أمور لا يمكن تحقيقها بمجرد فرض ضرائب على الواردات. بينما تسعى الصين إلى بناء منظومة اقتصادية متكاملة تدعم النمو الصناعي، تبدو الاستراتيجية الأمريكية غير واضحة وتعتمد على حلول مؤقتة لا تعالج المشكلات الجذرية.
لم تعد الصين ترى الولايات المتحدة كقوة مهيمنة تخشاها، بل باتت تعتبرها منافسا يتراجع أمام تقدمها السريع في مختلف المجالات. القادة الأمريكيون، من جهتهم، ما زالوا يتبنون تصورات خاطئة عن الصين، حيث يعتقدون أن اقتصادها هش وأن صعودها التكنولوجي محدود. هذا الانفصال في الفهم يجعل العلاقات بين البلدين أكثر توترا، حيث يعتقد كل طرف أنه في موقع القوة، بينما تشير المعطيات إلى أن الصين باتت أكثر قدرة على المنافسة عالميا.
فرض التعريفات الجمركية على الواردات الصينية قد يمنح بعض الحماية للصناعات الأمريكية، لكنه ليس حلاً سحريا لاستعادة التفوق الصناعي. بدلاً من الاعتماد على الضرائب التجارية، تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء منظومة إنتاجية حديثة قادرة على التنافس من حيث الجودة والتكلفة. الصين، في المقابل، لم تتأثر بشكل كبير بهذه التعريفات، بل عملت على تطوير صناعاتها المحلية، مما جعلها أقل اعتمادًا على السوق الأمريكي في بعض القطاعات الحيوية.
تتفوق الصين في مجال التعليم التقني والهندسي، حيث تخرج أكثر من 3.5 مليون مهندس سنويا، مما يمنحها تفوقًا عدديا هائلا في المواهب المتخصصة مقارنة بالولايات المتحدة. هذا العدد الكبير من الخريجين يسهم في تسريع الابتكار وتطوير صناعات جديدة، في حين تعاني أمريكا من نقص في الكفاءات في المجالات العلمية والتقنية. إذا لم تستثمر الولايات المتحدة في تعليم الأجيال القادمة بشكل جاد، فإنها ستجد نفسها متأخرة عن الصين في سباق التفوق التكنولوجي.
الصين لا تعتمد فقط على الجامعات لإعداد الكفاءات، بل تمتلك نظامًا تعليميا مهنيًا متطورا يخرج ملايين الفنيين والمتخصصين سنويا. هذا النموذج يسمح للصين بإنشاء مصانع جديدة بسرعة هائلة، حيث تجد القوى العاملة المدربة جاهزة لدخول سوق العمل فورا. في المقابل، تعاني الولايات المتحدة من نقص العمالة الماهرة، حيث تركز أنظمتها التعليمية على التخصصات النظرية بدلاً من التدريب العملي المطلوب للصناعات المتقدمة.
أصبحت الصين دولة رقمية بالكامل، حيث يتم تنفيذ معظم المعاملات المالية عبر الهواتف الذكية، مما يعكس مستوى التقدم التكنولوجي فيها. هذا التحول جعل الحياة أكثر كفاءة، حيث يمكن للمواطنين استخدام التطبيقات الإلكترونية لإنجاز جميع احتياجاتهم اليومية، من التسوق إلى دفع الفواتير. في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على الأنظمة التقليدية، ما يجعلها متأخرة في رقمنة الاقتصاد بشكل شامل.
رغم القوة الصناعية التي تتمتع بها الصين، فإن قطاع العقارات يواجه أزمة حادة بسبب الديون المتراكمة والمشاريع غير المكتملة. هذه الأزمة تسببت في تراجع الثقة بين المواطنين والنظام المالي، حيث يخشى الكثيرون من انهيار السوق العقاري وتأثيره على الاقتصاد الوطني. إذا لم تجد الحكومة الصينية حلولا فعالة لهذه المشكلة، فقد تشكل تهديدا حقيقيا للاستقرار المالي في البلاد على المدى البعيد.
مع ذلك، العولمة أصبحت واقعا لا يمكن الهروب منه، حيث أصبح التعاون الاقتصادي الدولي أمرا ضروريا لتحقيق النمو. الانعزال الاقتصادي لن يؤدي إلا إلى خسارة الجميع، حيث تعتمد معظم الصناعات اليوم على سلاسل التوريد العالمية. بدلاً من محاولة فرض الحمائية التجارية، تحتاج الدول الكبرى إلى البحث عن طرق لتعزيز التعاون والاستفادة من التكامل الاقتصادي بدلاً من مواجهته.