
مصر ام الدنيا
كتب/ أيمن بحر
كانت أمة كالنسر المحلق حفرت اسمها فى الصخر ونقشت مجدها فى ضوء الشمس فما مر بها غاز إلا تحطمت أطماعه على صخرتها وما جثم فوق صدرها محتل إلا لفظته كما يلفظ البحر حطام السفن. لكنها أُحيطت بالقيود وسجنت فى ظلمات التبعية فتعاقبت عليها العصور وكلما انتفضت شدّوا وثاقها، وكلما هتفت، أوصدوا فمها بسلاسل من خداع وضعوا على كتفيها عروشًا مستعارة وأوهموها أن السير تحت الظل أمان وأن المسير تحت الشمس هلاك، فنامت مجبرةً لا مختارة وغفت ثلاثةً وعشرين قرنًا منذ أن حكمت نفسها آخر مرة حتى حسبها الطامعون قد استسلمت وانطوى ذكرها فى صفحات النسيان.
لكنها لم تمت كانت تهب ثم تعاد إلى قمقمها تحاول كسر القيد فيزيدونه متانة حتى إذا دقّت طبول المغول على أبوابها انتفضت فى عين جالوت فمزقت جحافلهم، وأعادت التوازن للأرض ثم قهرت كل من سولت له نفسه أن يحكمها بغير إرادتها لكنها بقيت محاصرة تنهض ولا تحكم تقاتل ولا تتحرر، حتى حان أوانها فأرادت أن تستعيد حكم نفسها بعد ألفين وثلاثمائة عام ولكنهم رفضوا، قاوموها حاصروها أشعلوا الحروب فى وجهها وحاولوا أن يُعيدوها إلى القمقم ولكن إرادة الله شاءت أن يتحطم القيد وينطلق المارد فتصدّعت الأغلال وتهاوت العروش المزيفة وارتفع العلم الذى ظن الأعداء أنه طُوى للأبد وانحنت رقاب الظالمين تحت سطوة الحق.
وفى لحظةٍ كتب لها أن تكون ميلادًا جديدًا خرجت الأمة من تحت الركام لم تعد كما كانت بل أشد بأسا أصلب عودًا، عصيةً على الكسر، لم تكن عودتها انتفاضةً عابرة بل قيامةً بعد دفن، كطائر الفينيق ينهض من رماده ينفض عنه غبار العصور يبسط جناحيه فى سماء ظنها الجميع قد خلت منه، يحلّق فوق العرش الذي سُلب منه قرونًا ويرسم ملامح الغد بيديه، ثم يسير نحو المجد غير ناظرٍ خلفه شامخا باسمه ثابتًا برسالته عائدًا إلى مكانه الذى لم يكن لغيره يومًا باسم الله الحميد المجيد.