الحمد لله الذي يمن على من يشاء بالأولاد ويجعلهم فتنة يتبين بها الشاكر الذي يقوم بحقهم ويصونهم عن الفساد والمهمل الذي يضيعهم ويتهاون بمسئوليتهم، فيكونون عليه نقمة وحسرة في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أما بعد إن لذة الشهادة في سبيل الله تعالي لا يحصرها قلم ولا يصفها لسان ولا يحيط بها بيان وهي الصفقة الرابحة بين العبد وربه حيث قال الله تعالى كما جاء في سورة التوبة ” إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم بان لهم الجنة” فتأملوا هذه الآية العظيمة التي فيها شراء، وفيها صفقة عظيمة، فالمشتري هو الله تعالي والمتفضل هو الله عز وجل والمنعم هو الله سبحانه، خلق هذه النفس من العدم وأطعمها وسقاها وكفاها وآواها، ودفع عنها النقم، وأسبل عليها وابل النعم، ثم هو جل وعلا يشتريها من صاحبها ويبذل له عوضا وثمنا ألا وهو الجنة فيها مالا عين رأت.
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا كان الثمن هو الجنة، فإنه لا يجتهد في هذه الصفقة أو أن يكون ممن يبتاعها إلا واحد ممن عرف الثمن والقيمة والعوض والمعوض، وقيل أنه لما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج إلي غزوة مؤتة حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله صلي الله عليه وسلم وسلموا عليهم، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش وهو عبد الله بن رواحة فقالوا ما يبكيك؟ فقال أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار ” وإن منكم إلا واردها كان علي ربك حتما مقضيا ” فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، وتحرك الجيش الإسلامي في إتجاه الشمال حتى نزل أرض معان، من أرض الشام.
مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الإستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وإنضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف، ولم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في أرض معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا نكتب إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلا يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة.
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالي به، فإنطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، وأخيرا إستقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين، وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في أرض معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها شارف، ثم دنا العدو، وإنحاز المسلمون إلى مؤتة فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري، وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل، وأخذ الراية زيد بن حارثة وجعل يقاتل بضراوة بالغة، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعا.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالا منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فإحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعا إياها حتى قتل، يقال إن روميا ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين.