نماذج مشرفة

عمر الغرسلّي شاعر يذيب الألم في صهد القلم

جريدة الاضواء

** عمر الغرسلّي شاعر يذيب الألم في صهد القلم **

** في البدء :
لم يأتِ الشّاعر المبدع * عمر الغرسلّي* ابن القصرين إلى تونس العاصمة مع أعضاء صالون السيليوم الثقافي لنحتفي بمجموعته الشّعرية 🌸ما شعور الرّمح لو طالته أحزاني؟🌸 إلى أمسية الاثنين 5 فيفري 2024 بخيمة معرض الكتاب في شارع بورقيبة لأنّ وضعه الصّحّي لا يسمح للأسف.. إلا أنه حاضر معنا في هذا اليوم من خلال ما نحمله تجاههه من المودّة و التّقدير و من خلال تجربته الابداعية القيّمة التي تستحق الوقوف عندها..
لقد عرفناه إنسانا طيّبا نقيّ القلب كطفل.. هادئا كمتصوّف لا همّ له من الدّنيا غير حكمة المعرفة.. خجولا كشفق الغروب على مُحيّا قمّة الشعانبي.. و عرفناه شاعرا متمرّدا هائجا مائجا في فجاج اللغة العربيّة كرياح الشتاء في ثنايا القصرين.. قصائده نابسة به و بزمانها في حداثة مُتشبّعة بمَعينها العريق رغم تنوّع التجربة الشاملة للشعر العمودي و الشعر الحرّ و القصيد النثري و حتى الشعر الغنائي لصيقة بذاته المتفاعلة بحدّة الانفعال مع ظروفه الخاصة حينا و مع ما يدور حوله في الواقع العام حينا آخر ..

** أمّا بعدُ :
حين نتأمّل ما ورد في مجموعته 🌸 ما شعور الرّمح لو طالته أحزاني ؟🌸 نلمس كونا شعريّا قاتما مكفهرّا غارقا في عمق الوجدان تتنازعه شكوى ذاتٍ إنسانيةٍ مستاءة و رفضُ ذاتٍ أدبيّةٍ غاضبة.. و هذا جليّ منذ الإهداء و التصدير (( الإهداء : إلى أمّي التي أحسنت تربية الحبّ فيّ.. إلى الذين راقصوا الجرح تحت ظلّ الشّمسِ و تفنّنوا في مغازلة الموت كي تحيا القضيّة.. إلى أصدقاء المحنة في هزل الزّمنِ الصّعب.. إلى والدتي العربية..))
(( التّصدير : لا تسقني كأس الحياة بذلّة
بل فاسقتي بالعزّ كأس الحتظل
كأس الحياة بذلّة كجهنّم
و جهنّم بالعزّ أطيب منزل عنترة))
الذيْن أعلنا عن تجربة ابداعيّة تتشكّل الذات فيها مُكابِدة : من جهة أولى لأزمة قدريّة مع الظّروف القاهرة التي أجبرته على مغادرة مقاعد الدراسة بموطنه و السّفر للبحث عن فرصة أخرى لإكمال تعليمه في العراق ثم العودة ثانية إلى تونس في ظروف حرب الخليج و ما تخلل ذلك من صعوبات العيش المريرة
و ضياع حبيبة العمر بين صفحات الأمكنة و الأيام.. فكان القصيد ملاذا و متنفسا.. كتب في ص 69 :
(( عندما يأتي المساء
يكبر الحزن فأُظهِر
أوراق الآلامِ شِعرًا
حتّى لا أبكي فأُقهَر))
و مُكابِدة من جهة ثانية لأزمة حضاريّة ضربت الامّة العربية في مقتل بضرب العراق بلد الشعر و دور النشر و البحث العلمي
و الجامعات التي فتحت أبوابها لكلّ الشّباب العربي من طلّاب العلم .. و هذا له حضور مُلحّ في قصائد شاعرنا الذي كتب “”عراق الأمّة “” واقعا و رمزا يُلقي بظلاله على سائر المنطقة العربية المأزومة بالخيانات داخليّا و بالاعتداءات خارجيّا.. كتب مخاطبا العراق في ص 56 :
(( قليل من الشوق ما عاد يكفي
لإرواء ظمأى بِحوش هوايا
في سجنك القلب يبقى أسيرا
و حبّك في البال أنقى القضايا…))
و كتب أيضا في ص 75 :
(( لم يعد لي ما يُجيد الصّدّ
و العمر قد مرّ موجوع الفصول
لم يعد لي ما يزول
بعد أن فرّ الأمان من بلاد العُرب
في هذا الزّمان و انتهى الحلم الجميل..))
لذلك كثيرا ما تداخل في قصائده عشق الحبيبة الضائعة بعشق العراق المغدور ليبدو الشاعر بينهما بمثابة (( شهيد بغزوة حبّ))
و تمثّل قصيدة : “” ما شعور الرمح لو طالته أحزاني”” ( وهي القصيدة الثانية و العشرون من بين أربع و ثلاثين قصيدة) التي وهبت للمجموعة عنوانها باعتبارها قصيدة جامعة تقاطعت فيها مختلف مقوّمات الكون الشعرى الممتدّ على سائر محتويات القصائد.. تمثّل الشّاهد الأوفى و الأجلى على ذلك إذ ورد فيها خاصّة ص 86 :
(( أيها الحبّ الفريد
هذا وجهي يتغذّى القهر منه
بعدما ضيّعتُ ظلّي
و غزا الظّلمُ ديارا
صار فيها الخوف ربّي…
أيها الحبّ الكبير
لا تلمني.. لا تلم شبلا غريبا
مَوسق الحزن خطاه
فسرى كالرّعد مجروح الجمال
يقتفي للمجد آثارا أُبيدت
ربما يحيا قليلا كي يرى
في العُرب يوما تلتقي فيه الجبال…))
و قد أقام شاعرنا هذا الكون الشّعريّ المعبّر عن غربته العميقة بمختلف مستوياتها على خطاب شعري يضجّ بالسؤال المحيّر
و المستفز في عناوين القصائد (( كقصيدة : مَن علّم الدّمع سجر العيون؟ ص 23 و قصيدة : متى تأتي؟ ص 114..)) كما في متونها كقوله في قصيدة : عندما يصبح الموت امتيازا ص 38 التي بُنِيت بكاملها على تواشج طريف بين السؤال الوجوديّ
و السؤال الحضاري :
(( أ في كلّ حين نموت؟؟
و نشعر أنّا انتهَينا
بوجه جديد نعود
و نشعر أنّا اختفينا
لظى الشّوق فينا يزيد؟ ..
أ نمضي..؟
نزوّق وجه الزّمان
برمي الورود..
و قتل الجحود
و رفض السجود ؟))
كما تميّز هذا الخطاب الشّعريّ بتنوّع مستويات التّجريب اللّغوي _سواء في مهارة المجاورة بين المعاجم المتباعدة كقوله مثلا في ص 91 ضمن تنويعة من معاجم الرّحيل و الهندسة و القيم و الجغرافيا و الوجدان.. عبّرت أحسن تعبير عن تنوّع مظاهر غربة الذات :
(( تعبت من السفر الدّائري
و من زمن التّيه و الجبناء
و صارت لديّ حدود و صارت لديّ قيود..
بعد عينيك.. و صار لديّ قفاء..))
_ أو في مستوى توليد المجازات.. و مثل ذلك ما نجده في ص 112 من فنّيّة تحويل مشهد الوصال ليلا إلى وليمة لذيذة لها طعم و رائحة :
(( تعالَيْ.. فطعم الليالي بقربك أشهى
و للحبّ رائحة تتهشّم
فوق رصيف البلاد
و تشتاق نوما على شرفات الأصيل..))

** و في الأخير :
هذا بعض ما ينبغي أن نقف عنده من تجربة شعريّة مميزة تضيف أثرا ذا قيمة و جَودة إلى مدوّنة الشعر التونسي في مرحلة التّحديث اختار صاحبها ان يواكب زمانه برصانة دون اكتفاء بالأصيل و لا احتذاء بالدّخيل فكتب مكابدته و ألمه (( ليس بسيف عنترة إنّما بوهجه السّاطع.. و ليس بقلب جميل إنّما برقّته و عِفّته.. و ليس بقرطاس المتنبّي إنما بعنفوانه و هيبته))..
#كوثر_بلعابي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى