مقال

الدكروري يكتب عن الإكثار من ذكر الموت

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإكثار من ذكر الموت

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

إنه الموت فكم من جسد صحيح، ووجه صبيح ولسان فصيح هو اليوم في قبره يصيح وعلى أعماله نادم وعلى الله قادم، فقيل أنه خرج الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في جنازة لبعض أهله فلما أسلمه إلى الديدان ودسه في التراب وأغلق عليه القبر، فالتفت إلى الناس فقال أيها الناس إن القبر ناداني من خلفي أفلا أخبركم بماذا قال لي ؟ قالوا بلى يا أمير المؤمنين فقال إن القبر قد ناداني فقال يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت له بلى فقال إني قد خرقت الأكفان ومزقت الأبدان ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ماذا صنعت بالأوصال ؟ قلت له بلى فقال إني قد نزعت الكفين من الذراعين والذراعين من العضدين والعضدين من الكتفين والوركين من الفخدين والفخدين من الركبتين والركبتين من الساقين والساقين من القدمين، ثم بكى عمر بن عبد العزيز فقال ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وعزيزها ذليل وشبابها يهرم، وحيها يموت.

 

فالمغرور من اغتر بها، فأين سكانها الذين بنوا مدائنها ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟ والديدان بعظامهم وأوصالهم ؟ فكانوا في الدنيا على أسرة ممهدة وفرش منضدة، بين خدم يخدمون وأهل يكرمون فإذا مررت فنادهم وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم، وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم ما بقي من فقره ؟ فسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون بها وعن الأعين التي كانوا إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ فقد محت الألوان وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه ومحت المحاسن وكسرت القفا وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء أين خدمهم وعبيدهم أين جمعهم ومكنوزهم ؟ والله ما زودوهم فرشا ولا وضعوا هناك متكئا أليسوا في منازل الخلوات وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة والأهل.

 

وقد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، ومنهم والله الموسع له في قبره الغض الناضر فيه والمتنعم بلذته، ثم بكى عمر وقال يا ساكن القبر غدا، ما الذي غرك من الدنيا أين رقاق ثيابك أين طيبك أين بخورك، كيف أنت على خشونة الثرى، ليت شعري بأي خديك يبدأ الدود البلى، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي ثم بكى بكاء، ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا أيام ومات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب، ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم” وقال صلى الله عليه وسلم “أتتكم المنية رابية لازمة جاء الموت بما جاء به، جاء بالروح والراحة والكرة المبارك لأولياء الرحمن من أهل دار الخلود الذين كان سعيهم ورغبتهم فيها لها.

 

ألا وإن لكل ساعي غاية، وغاية كل ساع الموت فالناس سابق ومسبوق” والمتأخر لا بد له من اللحوق، ولكن جعل الله له في تأخره عبرة وعظة ليستعد للموت قبل نزوله، وليتهيأ للقاء ربه فمن لم يعتبر ويتعظ فهو لاه شقي وعن مصيره غبي، فكفى بالموت واعظا وباليقين غنى فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل ” يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه” وفي الصحيح عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وإنما يكون ذلكم عند الموت حين يرى المحتضر ما يبشر به بحسب عمله” فإنكم في دار هدنه، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وإن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء وجلاؤها كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن، وإنكم لو رأيتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.

 

وفي مسند الديلمي رحمه الله عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “وما من أهل بيت إلا وملك الموت يتعاهدهم في كل يوم مرتين فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه فإذا بكى أهله وجزعوا قال لم تبكون ولم تجزعون فو الله ما نقصت لكم عمرا، ولا حبست لكم رزقا وإن لي فيكم لعودة ثم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدا” وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال “احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله وبشروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عرق منه على حياله، وفي سنن النسائي رحمه الله عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال “إذا حضر المؤمن، أي عند قبض روحه، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون أخرجي راضية مرضيا عنك.

 

إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان، ماذا فعلت فلانة فيقولون دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا كان، يعني ميتا، قال أما أتاكم قالوا ذهب الأمة الهاوية وإن الكافر إذا حضر أتته ملائكة العذاب بمسح أي كفن من النار، فيقولون أي لروحه، اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتوا بها باب الأرض فيقولون ما أنتن هذه الريح حتى يأتوا بها أرواح كفار يعني في السجن أسفل سافله وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله، عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا إنا نكره الموت، قال ليس ذلك.

 

ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، والله عز وجل للقائه أحب وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله للقائه أكره” فإن الواجب على المسلم الفطن أن يتفكر في أحوال الأمم السابقة والقرون الماضية وقد بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار، وشيدوا القصور وعمروا الديار ولربما ظنوا أنهم في هذه الدنيا مخلدون وما هم عنها براحلين، فبينما هم يعيشون مرفهين في هذا الحلم إذ هجم عليهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وهو الموت، فأصبحوا عظاما رميما، ورفاتا هشيما وإذ بمنازلهم خاوية وقصورهم خالية، وأجسادهم بالية، وأصواتهم خافتة، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم وقد خلفوا كل شيء وراءهم، لم يأخذوا معهم مالا ولا جاها ولا منصبا إلا الصاحب الملازم وهو العمل، وها هم قد سكنوا القبور الموحشة حيث لا أنيس ولا صاحب.

 

وقد تساوى في سكناها جميع الناس غنيهم وفقيرهم، شريفهم وحقيرهم، وهكذا فإن الموت أعظم واعظ وأبلغ زاجر وقد أوصى رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره لما فيه من دفع المرء لعمل الصالحات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى