
الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 5″
بقلم / محمـــد الدكـــروري
وغني عن القول أن كثيرا من أدباء عصر الحريري ومن تلاهم إلى يومنا هذا، حذوا حذو الحريري، فأنشأوا مقامات، قصيرة القامات، تحمل ذات الإسم ولكنها تخالفها في الجسم، وقد قال المتنبي وقد يتقارب الوصفان جدا وموصوفاهما متباعدان، وقيل أن الطبيب النصراني أبا العباس ابن ماري، يحيى بن سعيد بن ماري، الذي أنشأ ستين مقامة على نسق مقامات الحريري، تعرف بالمقامات النصرانية، جاء في مقدمتها أما بعد فيقول الفقير إلى سوابغ آلاء الباري، أبوالعباس، يحيى بن سعيد بن ماري، العربي نسبا، النصراني مذهبا، وكما ذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمة شميم الحلي، علي بن الحسن، اللغوي الشاعر، وكنت قد وردت إلى آمد في شهور سنة خمسمائة واربع وأربعين من الهجرة، فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدت إلى مسجد الخضر ودخلت عليه فوجدته شيخا كبيرا قضيف الجسم في حجرة من المسجد.
وبين يديه جامدان مملوء كتبا من تصانيفه فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه، فلما ذكرت له المعرى نهرني وقال لي ويلك كم تسيء الأدب بين يدي، من ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟ فقلت يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدم؟ فقال كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت فما فيهم قط أحد بما يرضيك؟ فقال لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، وابن الحريري في مقاماته فهؤلاء لم يقصروا، قلت له يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي يابني اعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل، عملت مقامات مرتين فلم ترضني فغسلتها، وما أعلم أن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري، ولشميم الحلي شرح لمقامات الحريري مخطوطته موجودة في تركيا، وقد قام عدد من الخطاطين الفنانين بكتابة نسخ مصورة من المقامات.
تصور أبطال المقامة أو بعض مشاهد قصصها، منها مخطوطة نفيسة في المكتبة الوطنية بباريس، وأخرى في المتحف البريطاني رسمها عمر بن علي بن المبارك الموصلي، وثالثة في مكتبة فيينا، وقيل إن الحريري ينافس المتنبي أو يسبقه في أن يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس، وليست مقامات الحريري مؤلفه الوحيد، بل له مجالس أدبية أملاها بالبصرة كان نتاجها كتابه اللطيف الذي تناول ما يقع به المتأدبون من أخطاء والذي أسماه درة الغواص في وهم الخواص، وبيّن سبب تأليفه في خطبة الكتاب قائلا رأيت كثيرا ممن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسموا بسمة الأدب، قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم، وترعف به مراعف أقلامهم، فدعاني الأنف لنباهة أخطارهم والكلف بإطابة أخبارهم، إلى أن أدرأ عنهم الشبه، وأبين ما التبس عليهم واشتبه، لألتحق بمن زكى أكل غرسه، وأحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن حلى بعين الناظر فيه والدارس،
وأحله محل القادح لدى القابس، وإلا فعلى الله تعالى أجر المجتهد وهو حسبي وعليه أعتمد، وله كذلك كتاب مُلحة الإعراب، وكتاب توشيح البيان، وله شعر حسن في ديوان، وديوان رسائل، وقد نسب له الأستاذ الزركلي خطأ أو سهوا كتاب صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور، في التاريخ، وهو للوزير أنوشروان، وإلى جانب مؤلفاته الخالدة خلف الحريري ولدين هما أبو العباس محمد، وعبد الله وهو الذي نزل بغداد وسكنها، وروى بها عن والده كتبه مثل المقامات ودرة الغواص وملحة الإعراب، وكان الحريري زري اللباس فيه بخل، مع أنه كان غنيا وقيل أنه كان له ثماني عشر ألف نخلة، وهكذا شهد تاريخ الأدب العربي أعلاما بارزين في فنونه المختلفة، وأثرى هؤلاء النبغاء مكتبة الأدب الغربي بذخائر كتبهم وثرواتهم العلمية، ولاشك أن جهوده هذه مشكورة، وإن الأسلوب في الواقع تابع للكاتب والبيئة التي يعيشها، فالذين عاشوا في الزمن الجاهلي.
سواء كانوا شعراء أو أدباء يحملون أسلوبا يملؤه البساطة والسذاجة مع اختيار الأمانة والصدق في تراثهم، وامتاز أسلوبهم بالبداوة العربية والسمات المختصة بهذا العصر، والذين وجدوا الإسلام وعاشوا فيه تأثر أسلوبهم بالقرآن والحديث وهكذا دواليك فكان العصر الذي عاشه أبومحمد الحريري عصر الانحطاط من حيث الأسلوب، وقد رأى المؤرخون من قبل العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي نظما ونثرا وشعرا وأدبا، وكان من أعلام هذه العصور امرؤالقيس وحسان بن ثابت والفرزدق وجرير، وعبدالحميد الكاتب، وعبدالله بن المقفع والجاحظ ابن العميد والصاحب بن العباد، ثم جاء عصر الحريري الذي نبغ فيه بديع الزمان الهمذاني، وأبوبكر الخوارزمي والقاضي الفاضل، وظل الحريري في البصرة موضع تقدير أهل العلم، وجاء وضعه للمقامات فارتفعت منزلته وازدادت مكانته حتى توفي في السادس من شهر رجب سنة خمسمائة وستة عشر من الهجرة، الموافق الحادي عشر من شهر سبتمر لعام ألف ومائة واثنين وعشرين ميلادي.