
الدكروري يكتب عن الإمام العراقي ” جزء 2″
بقلم / محمـــد الدكـــروري
والتبصرة والتذكرة وهي ألفية الحديث، ونكت منهاج البيضاوي في الأصول، والتحرير في أصول الفقه، ونظم الدرر السُنية منظومة في السيرة النبوية وهي ألفية السيرة النبوية، والألفية في غريب القرآن، والتقييد والإيضاح في مصطلح الحديث، وشرح الترمذي، وهكذا كان الإمام العراقي لما بلغ من العمر ثلاث سنين توفي والده، لكن شاء الله أن يجعل له من العلم نصيبا وافرا، فكان يحضر إلى الشيخ تقيّ الدين وهو شيخ والده، فيبرّه ويكرمه، وحفظ القرآن الكريم وعمره ثماني سنين، واشتغل في العلوم، وكان أول اشتغاله في القراءات والعربية، وربما حفظ في اليوم الواحد أربعمائة سطر، وانهمك في ذلك، فقال له قاضي القضاة عز الدين بن جماعة إنه علم كثير التعب، قليل الجدوى، وأنت متوقّد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره وأشار عليه بالاشتغال في علم الحديث فأقبل عليه.
وقرأه على جملة من أبرز مشاهير شيوخ الحديث في عصره، وقد أحبّ عبد الرحيم علم الحديث، فانهمك فيه، وصرف أوقاته إليه، حتى غلب عليه، وصار مشهورا به، فتقدم فيه، وانتهت إليه رئاسته في البلاد الإسلامية، مع المعرفة والإتقان، والحفظ بلا ريب ولا مرية، حتى إنه لم يكن له فيه نظير في عصره، وشهد له بالتفرد فيه عدة من حفّاظ عصره، منهم السبكي، والعلائي، وعز الدين ابن جماعة، وابن كَثير، والإسنائي، فكانوا يكثرون من الثناء عليه، واشتهر بين الناس باسم الحافظ العراقي، وقد جمع الحافظ العراقي بين العديد من فنون العلم، منها القراءات، والفقه وأصوله، والنحو واللغة والغريب، وكان له ذكاء مفرط، وسرعة حافظة، فقال القاضي عز الدين ابن جماعة “كل من يدعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدّع” وكان ابن جماعة نفسه يراجعه فيما يهمه ويشكل عليه، وقال الحافظ تقي الدين ابن رافع، وهو بمكة.
وقد مرّ به الحافظ العراقي “ما في القاهرة محدّث إلا هذا والقاضي عز الدين ابن جماعة” وكان الشيخ جمال الدين الإسنائي يحث الناس على الاشتغال عليه، وعلى كتابة مؤلفاته، وكان ينقل عنه في مصنفاته، وكان الإمام العراقي يلقب بزين الدين وأقامت عائلته في قرية رازيان ثم انتقل والده وهو صغير مع بعض أقربائه إلى مصر، إذ استقر فيها وتزوج منها وكانت أسرته ممن عرفوا بالزهد والصلاح والتقوى، وقد كانت لعائلته مناقب ومفاخر، واشتهرت والدته بالاجتهاد في العبادات والقربات مع الصبر والقناعة، أما والده فقد عرف بخدمة الصالحين ومن أشهرهم الشيخ القناوي الذي بشر بمولد الحافظ العراقي، وسماه أيضا، وتوفي والده وهو صغير لم يكمل الثالثة من عمره، ويقال إن الشيخ القناوي هو الذي كفله، وعرف الإمام العراقي بسعة الاطلاع وجودة القريحة وصفاء الذهن وقوة الحفظ وسرعة الاستحضار وابتدأ الطلب بنفسه.
وزار الحافظ العراقي الإسكندرية وبعلبك وحماة وحمص وصفد وطرابلس وغزة ونابلس طلبا للحديث حتى برع فيه رواية ودراية، وصار المعول عليه في إيضاح مشكلاته وحل معضلاته، وأصبح ضليعا بأسماء الرجال والتخريج، وعارفا بوفيات الرواة، وبارعا في لغة الحديث، واستقامت له الرئاسة فيه والتفرد بفنونه حتى إن كثيرا من أشياخه كانوا يرجعون إليه وينقلون عنه، وتولى الحافظ العراقي العديد من المناصب لمكانته العلمية، فتولى التدريس في العديد من مدارس مصر والقاهرة منها دار الحديث الكاملية والظاهرية القديمة والقراسنقرية وجامع ابن طولون والفاضلية، وجاور مدة بالحرمين وتولى قضاء المدينة المنورة والخطابة والإمامة فيها في الثاني عشر جمادى الأولى سنة سبعمائة وثماني وثمانين من الهجرة، حتى الثالث عشر من شوال سنة سبعمائة وواحد وتسعين من الهجرة.
وقال عنه تلميذه الحافظ ابن حجر كان الشيخ منور الشيبة جميل الصورة، كثير الوقار، نزر الكلام، طارحا للتكلف، ضيق العيش، شديد التوقي في الطهارة، لطيف المزاج، سليم الصدر، كثير الحياء، قلما يواجه أحدا بما يكرهه ولو آذاه، متواضعا منجمعا، وتوفي الإمام العراقي في الثامن من شهر شعبان سنة ست وثماني مائة وست من الهجرة وكان عمرة واحد وثمانين عاما، فرحمه الله رحمة واسعة.