القصة والأدب

الحكم آخر الجلسة .

جريدة الأضواء المصرية

الحكم آخر الجلسة .
كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق في منزل “نحن” العامر، الكائن في حيّ العرب للاحتفال بعيد ميلاد اللّغة العربية . .
كان المنزل يشدو بسحر اللّغة العربية ،إذ عُلّقت صور نحاتها الرُّواد فجاورت صورةُ “سيبويه” صور “أبو الأسود الدؤلي “و”ابن جني” و”المبرّد ” كما علقت على جداريات المدخل قصائد شعراء غرسوا حبها في الوجدان العربي كحافظ ابراهيم واحمد شوقي ّ
عند حلول المساء بدأ يتوافد الزّوار على المنزل المحتفل ،من ضمنهم الألفان المقصورة والممدودة اللّتان كانتا مصحوبتين بواو الجماعة .
رحّبت “نحن” بمقدمهم ودعتهم إلى الجلوس في الصّالون الذي كان يطلّ على حديقة المنزل النّدية الغنّاء ، من شرفته تراءت لها التّاء المبسوطة وهي تتأبّط بحنان ذراع شقيقتها الصغرى”,التاء المربوطة ” بينما كانت تقتفي خطواتهما “نون النّسوة ” التي كانت تتجاذب أطراف الحديث مع “هو ” . .

سارعت “نحن” إلى استقبالهم عند مدخل المنزل مُهلّلة :
ــ مرحبا بكم جميعا ، بحضوركم الآن اكتملت بهجة اللّغة العربية
بنبرة معاتبة خاطبت “نون النّسوة” “نحن “: الأولى بك أن تقولي بكنّ وليس بكم، فنحن كما ترين عصبة وهو فرد واحد.
اعتذرت “نحن” عما بدر منها وبادلتها “نون النّسوة “ابتسامة شاكرة، سرعان ما نزعها عن ثغرها تدخّلُ “هو” الذي بدا مقطّب الجبين
ــ أظنّكم غفلتم عن أمر هامّ وهو أنّ اللّغة العربية تغلّبُ المذّكر على المؤنّث ، لذا فقولكم لا يستقيم إطلاقا مع قواعدها .
استبدّ الحنقُ بنون النّسوة فصكّت وجهها ثم أرسلت نظرات متسائلة ومعاتبة نحاة الّلغة العربية التي كانت تطالعها صُورُهم ،همّت بمغادرة الحفل لولا تدخّلات ضمائر اللّغة .
في تلك الليلة جفا النوم مرقد “هنّ “فظلّت متربصّة شروق الشّمس حيث قصدت اصدقاىها الإنجليز هم وهنّ
.THEY استفسرهم عن أحوال المذّكر والمؤنّث في الإنجليزية
تعجّبت عند علمها بأنّ اللّغة الإنجليزية لا تفرّق بين المذكّر والمؤّنث في الأفعال وأنّ معظم كلماتها تصلح للجنسين معا ولا يدّل على جنس الفاعل إلا سياق النّص .
لم يسكت الغضب عن “نون النّسوة ” لا زمها طويلا ،فقررت اللّجوء إلى القضاء . . .
انطلقت أشغال الجلسة الأولى بالاستماع إلى دفاع المدّعية “نون النّسوة “حيث قال :
سيّدي القاضي إنّ موكّلتي تشكو من أنّ اللّغة العربية لغة غير حيادية ،فهي تمارس تفرقة لغوية حين تغلّبُ المذّكر على المؤنّث ، فكيف يطمس رجل واحد تواجد المئات من النساء ويجعلهنّ.يختفين ؟ . . أنا أتساءل أمام محكمتكم الموقّرة لماذا يشترط النّحويون العرب صفة العقل في جمع المذّكر السّالم ولا يشترطونه في جمع المؤنّث السّالم ؟ثم ما بال تلكم التاّء المربوطة التي ترتبط بالمؤنّث.وتقيّده ؟ ؟
اتجهت أنظار الحضور إلى جمع المؤنّث الساّلم الذي عقد حاجبيه ممتعضا وإلى التّاء المربوطة التي كان يشير أصبعها الصّغير بإشارة الّنفي . .
انتهى محامي المدّعية من تقديم كلمته وحان دور دفاع اللّغة العربية الذي انبرى قائلا في تدخّله : . ـ سيّدي القاضي إنّ موكّلتي من اللّغات السّامية التي تغلّب المذّكر على المؤنّث وكما تعرفون فضيلتُكم فإنّ اللّغة تعكس فكر وذهنية المجتمعات التي ظلمت ولم تُنصف المرأة ،وقد اعتبر نحاتُها أنّ المذّكر هو الأصل والمؤنّث فرع له ،غير أنّه يُلاحظ أنّ اللّغة العربية فرّقت بين المذكّر والمؤنّث على أساس لغوي صرف لا علاقة له بالقيمة الاجتماعية مثلُ ذلك مثل اعتبار المُفرد أصل المثنّى والجمع واعتبار النّكرة أصل المعرفة، زيادة على ذلك فاللّغة العربية تنمح “هنّ” كيّانا مستقلّا دون “هُم “هاته الأخيرة التي يدخل فيها المذكّر والمؤنّث على حدّ سواء بينما يمنعها النّحويُون من دخول محمية “هنّ ” من هنا فالتّهمة التي يرمي بها أنصار اللّا جنسنة وتخنيث الّلغة موكّلتي ليس لها أي أساس من الصّحة . . . بعد ذلك نادت المحكمة على الشّهود تقدّم أولّهم “جمع التّكسير “الذي أدلى بشهادته بعد أن أدى القسم : :
سيّدي القاضي أنا إسمي جمع تكسير، أنا جمع جعلتني اللّغة العربية أسوّي بين المذكّر والمؤّنث، يجوز فيّ التّذكير والتّأنيث وأشهد أنّ كلمة رجل أجمعُها فتصيرُ رجالا وكلمة أنثى تصير إناثا . . عقب ذلك تقدّم ثاني الشّهود أمام هيئة القضاء ,أعطته الكلمة بعد أن تأّكّدت من هوّيته . . . ـــ أنا اسمي جمع مؤنّث سالم، علامتي الألف والتاء في آخري ، لم يشترط في جمعي نحاةُ اللّغة العربية صفة العقل كما اشترطوه في جمع المذّكر السّالم فيلحق بي الجماد والحيوان وهذا أمر كثيرا ما يحزّ في نفسي . . .
تعاطف الحضور مع شهادة جمع المؤنّث السّالم وكانوا متحمّسين لسماع شهادة جمع المّذّكر السّالم : ــ تسمّيني اللّغة العربية جمع المذّكر السّالم صحيح يشترط النحويون فيّ العقل ولكن يلحق بي ما لا عقل له كألفاظ العقود وأنا أشكو سيدّي القاضي منهم فعندما يريدون تعظيم جنسي “رجل “فإنهم يطبعونني بعلامة جمع المؤنّث السّالم الالف والتاء فأصبح “رجالات”،كما أنّني لا أتواجد ضمن صفات ذكورية سامية ونبيلة مثل نبيّ ،رسول ، وقاضي مثل سيادتكم . تقدّم أمام المحمة آخر الشّهود “التّاء المربوطة “فأدلت بشهادتها قائلة : : ـ انا التّاء المربوطة ، كلّهم يرونني ثقيلة الظّل و يتّهمونني بأنّني أكبّل الاسم المؤنّث لكنهم يغفلون عن أنني أمنح كيّانه استقلالا عن المذّكر فقط لاغير بدليل أننّي أختفي عندما تكون الصّفات خاصّة بالمرأة ككلمات حامل ،مرضع وطالق فأطلّقها طلاقا بائنا ، ثم إننّي لستُ خاصة بالتأنيث فأنا آتي لبيان النّسب كنسبنا نحن المغاربة كما آتي لتأكيد المبالغة وتأكيد القوّة مثل كلمات داهية ،علاّمة وفهّامة مثل هيئتكم الموقرة . . ـ بنهاية الاستماع إلى شهادة الشّهود رُفعت الجلسة للتّداول قبل النطق بالحكم . . . حنان قدامة في :10ـ11ـ2024 . .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى