حِلم الأحنف وسيف الحارثة: حين ينتصر الذكاء على الغضب
كتب يحي الداخلي
في أزمنة العرب الغابرة، حيث كانت الفروسية ميزان الرجولة، والمروءة تاج الرجال، كان يُضرب المثل بالحلم كما يُضرب بالشجاعة، وكان من أبرز من عُرف بالحلم والرصانة رجل يُدعى الأحنف بن قيس، سُمي حليم العرب، وسُيّد قومه بني تميم بفضل عقله لا سيفه، وبحكمته لا بطشه.
وذات يوم قائظ، بينما كان الأحنف جالساً في مجلسه، بين قومه وأصحابه، يتبادل معهم أطراف الحديث، ويحلّ بينهم نزاعاتهم بالحكمة والموعظة، اقترب منه رجل أعرابي، لا يُرى عليه أثر عقل ولا هيبة علم، فلطمه على وجهه لطمة مفاجئة مدوية، ساد بعدها صمتٌ ثقيل في المجلس، واشتعلت نظرات القوم كأنها جمرٌ تحت رماد.
نهض أحد رجال تميم وهو يصيح:
ــ “ويحك! أتعلم من لطمت؟! هذا الأحنف بن قيس، سيد بني تميم!”
لكن الأحنف، بهدوئه الذي يشبه سكون الليل قبل العاصفة، رفع يده وأشار إليهم أن كفّوا. ثم التفت إلى الأعرابي قائلاً بصوت هادئ كنسيم الصحراء:
ــ “يا هذا، لِمَ لطمتني؟ أما علمت أن فعلتك هذه لا تُغتفر عند العرب؟”
نظر الأعرابي إليه بعينٍ لا تعرف الخجل، وقال ببساطة:
ــ “أعطاني بعض الرجال دراهم، وقالوا لي: إن لطمت سيد بني تميم على وجهه، أعطيناك ضعف المال. ففعلت!”
فابتسم الأحنف ابتسامةً خفيّة، وقال له بهدوء عجيب:
ــ “لقد أخطأت، يا رجل، فأنا لستُ سيد بني تميم، بل سيدهم هو حارثة بن قُدامة. فإن أردت تمام أجرك، فاذهب إليه واصنع ما صنعت.”
تعجّب الحضور من ردة فعل الأحنف، بعضهم رأى فيها جبناً، وبعضهم أدرك دهاءً ما زال يُنسج، لكن الأحنف ظلّ كما هو، ساكن الطبع، واثقًا بخيوط حكمته.
خرج الأعرابي من المجلس يهرول كمن يطارد سراب المال، وسأل عن دار الحارثة، حتى بلغه. وكان الحارثة معروفاً في القبائل جميعاً بحدة طبعه، لا يطيق جهل الجاهلين، ولا يملك من الحلم ما يملك الأحنف.
دخل الأعرابي مجلس الحارثة دون مقدمات، وصاح:
ــ “أأنت حارثة بن قُدامة؟”
فأجابه:
ــ “نعم، وماذا تريد؟”
فباغته الأعرابي بلطمة على وجهه، تكرارًا لما فعله مع الأحنف.
لم يمهله الحارثة لحظة، بل انتفض كالصاعقة، واستلّ سيفه في لمح البصر، وضرب يد الأعرابي فقطعها، ثم قال وهو يلهث من الغضب:
ــ “هكذا نرد على من يتطاول على سادات تميم!”
تجمّع القوم، وارتفعت الأصوات، وجُرّ الأعرابي جراً إلى خارج المجلس، والدم يسيل من ساعده، وقد خسر ماله ويده معًا.
وفي اليوم التالي، جاء أحد رجال تميم إلى الأحنف وقال له:
ــ “أما كان فيك أن تأخذ حقك بيدك؟ أم أنك آثرت الحيلة على السيف؟”
فأجابه الأحنف بابتسامة ذكية:
ــ “لو رددت عليه كما فعل، لكنّا رجلين جاهلين. أما الآن، فقد حفظت هيبتي، ولقّنته الدرس بيد غيري، دون أن أخسر حلمي ولا سمعتي.”
ثم أضاف:
ــ “إنّ الحِلم، يا بني، لا يعني الضعف، بل هو سلاح الأقوياء، لا يحمله إلا من ملك نفسه، والسيطرة على النفس أشد من السيطرة على الأعداء.”