تونس وإرثها الثقافي: إشعاعٌ يتجدّد وإبداعٌ لا يُحجب
في خضم التحوّلات العالمية، تبرز تونس كقلبٍ نابضٍ للثقافة العربية، حاضنةً إرثًا أدبيًا وفنيًا يمتدّ جذوره من قرطاج القديمة إلى إبداعات العصر الحديث. فالمشهد الثقافي التونسي ليس مجرد انعكاسٍ للماضي، بل هو حوارٌ دائمٌ بين الأصالة والابتكار، حيث تُعيد الأجيال الجديدة صياغة الهويّة بلغةٍ شعريّةٍ تشتبك مع هموم الإنسان المعاصر وتتطلّعاته.
الإبداع التونسي: جسرٌ بين الذات والكون
يتميّز الإبداع في تونس بتعدّد روافده؛ فهو ينهل من تراث الأمازيغ والفينيقيين والعرب، وينصهر في بوتقةٍ فريدةٍ تمنح المبدع حرية التجريب دون خوفٍ من الانزياح عن الجذور. وتُعدّ الحركة الثقافية هنا إحدى أكثر الحركات حيويةً في المنطقة، بفضل مؤسساتٍ كـ”نادي في رحاب قرطاج للثقافة” الذي يُشكّل منصةً للشعراء والكتاب، ويُحيي أسئلةَ الهويّة واللغة عبر أنشطةٍ أسبوعيةٍ كـ”طيف اللغة العربية”. هذه الفعاليّات ليست مجرد لقاءاتٍ أدبية، بل هي مختبراتٌ إبداعيةٌ تُمكّن المواهب من صقل أدواتها، وتُعيد تعريف دور الثقافة كفعلٍ مقاومٍ للجمود الفكري.
سلوى السوسي: صوتٌ يخترق الضجيج
في هذا السياق، تأتي مجموعة “إذا الروح ارتفعت” للشاعرة سلوى السوسي كتتويجٍ لمسيرةٍ أدبيةٍ حافلةٍ بالبحث عن الجماليّ في اليوميّ. قصائدها، التي تجمع بين الإيجاز وكثافة الصورة، تُحوّل التفاصيل العابرة إلى استعاراتٍ كونية، وكأنّها تمسك بمِحوَرٍ خفيٍّ يربط الذات بالعالم. في الأمسية، لم تكن القراءات الشعرية مجرد عرضٍ لنصوص، بل طقسًا وجدانيًا حوّل الكلمات إلى ألحانٍ بصريّة، خاصةً مع التفاعل الحي للحضور الذي أثبت أنّ الشعر لا يزال قادرًا على لمس شغاف القلوب.
اللغة العربية: حاضنة الأسئلة والأحلام
لا يُخفى على أحدٍ تحدّيات تعزيز اللغة العربية في عصر العولمة، لكنّ فعاليات مثل “طيف اللغة العربية” التي يقدّمها الشاعر حمدان حمودة الوصيف تُذكّرنا بأنّ اللغة ليست مجرد أداة اتصال، بل هي وعاءٌ للذاكرة والخيال. ففي كل أسبوع، يُعيد هذا النشاط تعريف الحضور بقدرة العربية على استيعاب الانزياحات الحداثية، من خلال ورشٍ تفاعليةٍ تدمج بين الشعر واللّغة والموسيقى، كما ظهر في أداء ليلى راضي ومنصورة عمر، اللتين حوّلتا الكلمات إلى لوحاتٍ سمعيةٍ ترفد الأذن قبل العين.
ختامًا: الثقافة فعلٌ مقاوم
إنّ احتفاء تونس بشعرائها وفنّانيها ليس مجرد احتفالٍ بالإنجازات الفردية، بل هو تأكيدٌ على دور الثقافة كسلاحٍ ضدّ التسطيح والنسيان. ففي كلّ قصيدةٍ تُكتب، وكلّ نغمةٍ تُعزف، تُخلّص الروح التونسية جزءًا من كينونتها من قيود الواقع. وهكذا، تظلّ تونس، بروّادها وشبابها، تُصدّر للعالم رسالةً مفادها أنّ الإبداع هو أقوى وسيلةٍ لارتفاع الروح فوق كلّ ما يُثقلها.