ميلاد فجر ثقافي جديد وإعادة بناء الوعي لمواجهة تحديات السقوط الثقافي
كتب /محمد جابر في ظل التحولات الثقافية المتسارعة نشهد ظواهر متناقضة تتجلى في لقاءات ثقافية ظاهرها الحوار والتواصل وباطنها العبث والفراغ تتخذ هذه اللقاءات ألفاظا رنانة لكنها تخفي هشاشة فكرية وادعاء بالحفاظ على الهوية الثقافية فيما الواقع يكشف عن انهيار فعلي للوعي الثقافي وانسداد لقنواته الحقيقية في هذا المشهد المقلوب يصبح الإنسان مغتربا داخل ثقافته نفسها محاطا بالكلمات لكنه يجهل المقصد من اللفظ الفارغ من المعنى يدرك الشعار ويعي أنه بدون فعل أو جدوي
لم تعد أغلب اللقاءات الثقافية تمثل منصات حقيقية لبناء الفكر أو تعزيز الوعي الجمعي بل تحولت في كثير من الأحيان إلى مناسبات عبثية تغلب عليها مظاهر الاحتفال اللفظي والاستعراض الشكلي، الكلمات تلقى بغزارة لكنها تخلو من الجوهر فتتراكم فوق بعضها دون أن تشكل جسور تواصل حقيقي بل تتحول إلى سدود تعيق تدفق الفكر والنقاش البناء.
وفي ظل هذا السياق نشهد تهافتا على الشعارات الكبرى مثل الحفاظ على الهوية الثقافية في حين أن الممارسات الفعلية تدل على القطيعة مع هذه الهوية أو تشويهها إذ يتم التغني بالتراث والانتماء في الخطب والندوات بينما تعاني الثقافة الحقيقية من تآكل داخلي وفقدان للتجديد والفاعلية.
المفارقة الكبرى أن هذه اللقاءات تمارس باسم الثقافة لكنها تفضح اغترابا عميقا داخلها حيث أصبح الحديث الكثير بديلا عن الفعل المؤثر وتكرار المفردات الرنانة يغطي على غياب الرؤية الواضحة أو المشاريع الثقافية الجادة. ويزداد الأمر خطورة عندما يكون هذا الواقع أكثر وطأة على أصحاب الفكر المائز الذين يجدون أنفسهم محاصرين ببيئة ثقافية ترفض الاختلاف وتهمش الأصوات الحقيقية.
لقد تحولت جسور التواصل التي يفترض أن تبني الوعي والثقة إلى سدود عالية تمنع الانفتاح على الرأي الآخر أو الحوار النقدي الجاد وأصبحت الثقافة التي يفترض أن تكون حاضنة للإبداع والاختلاف مليئة بالكلمات الخالية من الفعل مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب الداخلي وفقدان الإيمان بجدوى التغيير.
إن المشهد الثقافي الحالي يكشف بوضوح عن مأزق عميق يتمثل في سيادة اللقاءات العبثية والتناقض بين الخطاب والممارسة مما يجعل الحاجة ملحة لإعادة بناء الفضاء الثقافي على أسس جديدة تقوم على المعنى الحقيقي والفعل الواعي والتواصل الصادق فالثقافة لا تقاس بكثرة الكلمات ولا برفع الشعارات بل بقدرتها على التأثير الإيجابي وتحديد الوعي وصون الهوية الحقيقية في عالم يزداد تشوها وهشاشة.
يشهد المشهد الثقافي الراهن تصارع مفاهيم قديمة مع أفكار جديدة وتتقاطع (معها) العديد من التوجهات الفكرية التي تكشف عن مأزق ثقافي عميق. (و)هنا تبرز بعض المبادرات الثقافية التي تحمل فكرا تجديديا ليس فقط في المحتوى بل هيكليا أيضا، هذه المبادرات تؤكد أن الوعي الثقافي يمكن أن يظل حيا بل وينمو من خلال فتح المجال أمام الأجيال الجديدة.
يعد دمج الشباب في الفضاءات الثقافية خاصة في وقت تتأزم فيه الهوية الثقافية من أهم الدعائم التي تساهم في بناء مجتمع قادر على التجدد والتغيير. على الرغم من هيمنة المناقشات التقليدية المملة والعبثية في العديد من الصالونات الثقافية التي تنظم في الوقت الراهن بدأت في الآونة الأخيرة تظهر صالونات ثقافية تحمل فكرا تجديديا ليس فقط في مضمونها بل أيضا في هيكلة هذه الفضاءات الثقافية نفسها هذه المبادرات الجديدة تفتح أبوابا لحوارات ترتكز فيه علي الواقع المعاصر وتطرح أسئلة تسهم في إثراء الفكر الثقافي وتعد هذه المبادرات التي يشارك فيها شباب ما زالوا في مراحل التعليم المختلفة بمثابة خطوة ضرورية في إعادة بناء الوعي الثقافي حيث يتحدث هؤلاء الشباب لغة الجيل الجديد ويطرحون تساؤلات تنبع من متطلبات العصر الحالي.
ومن اللافت في هذه المناقشات هو أن القائمين على هذه الحوارات هم في معظمهم شباب في مراحل دراستهم الجامعية أو الأكاديمية ومع اختلاف تخصصاتهم الدراسية إلا أنهم يبدون إلماما ووعيا ثقافيا معاصرا يعكس قدرتهم على فهم وتحليل قضايا الفكر والثقافة بطرق مبتكرة. هذه الظاهرة ليست مجرد حالة استثنائية بل تعكس تحولا في التفكير الثقافي يتجسد في القدرة على تجاوز القيود التقليدية والانفتاح على الأفكار الحديثة ورغم الاندهاش الذي يمكن أن يثيره ظهور هذه الفئة من الشباب في مثل هذه الفضاءات الثقافية فإن ما يلفت الانتباه أكثر هو اتزانهم وجأشهم في إدارة الحوارات الذي يعكس نضجا فكريا غير متوقع
مما لا شك فيه أن هذا التوجه يشير إلى تحول ثقافي حقيقي حيث بدأنا نرى كيف أن دمج الشباب في الحوارات الثقافية ليس فقط يكسر الجمود الذي ساد في الفترات السابقة بل يمثل أيضا خطوة فعالة نحو فتح المجال أمام الأجيال القادمة للانخراط في قضايا الفكر والثقافة التي تهم المجتمع. هذا التحول يؤكد أن الشباب يمكن أن يكونوا العنصر المحوري في أي عملية بناء ثقافي حقيقي وأن ثقافة الانفتاح على الفكر الجديد لا تنبع فقط من الأجيال القديمة بل تتجدد وتغتني بفضل الأجيال الشابة التي تسهم في إضفاء روح جديدة
ومن أبرز المدن التي طالما كانت مركزا للفكر والثقافة في مصر والعالم العربي تبرز الإسكندرية كإحدى المدن التي لا تزال تحتضن الوعي الثقافي المتجدد.
فقد شهدت الإسكندرية على مر العصور مراكز ثقافية عديدة و تستعد المدينة لاستقبال انطلاق باكورة فكرية معاصرة ستنظمها جامعة الإسكندرية حيث تشهد الأيام القليلة القادمة حدثا ثقافيا مميزا يضم مجموعة من المفكرين الشباب الأكاديميين والمبدعين من مختلف التخصصات. هذه الفعالية الثقافية تعد بمثابة نقطة انطلاق لجيل جديد قادر على توظيف الثقافة والفكر المعاصر لإحداث تغيير إيجابي في المجتمع.
إن دمج الشباب في الفضاءات الثقافية ليس مجرد فكرة رومانسية أو استراتيجية طارئة بل هو خطوة أساسية نحو بناء مجتمع قادر على التحول والنمو إن فتح المجال أمام الأجيال القادمة للمشاركة في المناقشات الثقافية والفكرية يعزز من قدرة المجتمع على مواجهة التحديات المعاصرة.
وبينما تقتصر العديد من اللقاءات الثقافية على تكرار الأفكار نفسها تبقى هذه المبادرات الثقافية الجديدة التي تقودها الأجيال الشابة بمثابة أمل حقيقي في تجديد الفكر الثقافي وبناء جسور حوار فعالة.
وها هي الإسكندرية كما كانت دائما تشهد ميلاد فكر ثقافي معاصر يتجدد في قلب الجامعة العريقة ليبث في المجتمع روحا جديدة تفتح الأفق أمام إمكانيات مستقبلية واعده