
الدكروري يكتب عن محاسبة النفس في رمضان” جزء 6″
بقلم / محمـــد الدكـــروري
ونكمل الجزء السادس مع محاسبة النفس في رمضان، وإن الأمة ليست بحاجة لمهرجين وأهل دروشة لرد موجة الحرب المعلنة على الإسلام وتعاليمه، ومن الغرابة أن تنسب سماحة الشريعة ونقاوة تعاليمها لهؤلاء المهرجين الذين يخبطون خبط عشواء في دين الله، فإن الأمة بحاجة لأقوياء وحكماء يردون بحوارهم وجدالهم البناء كل باطل أو شبهة، أو أى أمر من شأنه المساس بدينها وعقيدتها، وحتى عاداتها وتقاليدها، فما من نبى من أنبياء الله تعالى إلا وكان محاورا ومناظرا ومجادلا لقومه، وكل نبى قد ربح الحوار والمناظرة، وكان النصر حليفه بإذن الله تعالى فهذا نبي الله موسى عليه السلام يحاور ويناظر بالعلم والحلم والتؤدة، وفي الأخير كان النصر حليفه، ولا جيش ولا حرب ولا قوة تذكر سوى مدد الله تعالى وعونه، فربح الحوار والمناظرة نتائجه المثمرة تظهر ولو بعد حين.
بالحكمة التى يريدها الله عز وجل، وإن قوة الشخصية تكمن فى قوة الشخص على الجدال والمحاورة مع غيره، ولهذه القوة عوامل، من جملتها، الحكمة والتبصر أثناء الجدال والمحاورة، والقابلية لسماع الرأى الآخر، والقابلية فى المحاورة بالرفق واللين دون عنف، وضبط النفس وتجنب الغضب أثناء الحوار، والعدل في الكلام وعدم قطع كلام الطرف الآخر، وقبول الحق من الطرف الآخر، والتنازل عن الرأى إن ثبتت الحجة ببطلانه، والابتعاد عن التجريح والتقبيح، وبقاء الود وروح التسامح بعد المحاورة، وإن من علامة ضعف المُناظر هو الغضب والانفعال والجرح والعنف، والخصم يريد إزعاج خصمه، ويحاول معرفة نقاط ضعفه، فعلى المحاور ألا ينفعل ولا يتسرع، وعليه بضبط النفس مع كثرة ذكر الله تعالى، وإن سلاح المناظر هو العلم والحلم والبصيرة.
ومن ليس بحوزته هذه العدة، فلا يسمح له بدخول هذا الميدان وخوض هذا الغمار، وإلا فهو الشنار والعار، وإن من المفارقات التي تحمل بعدا عميقا فى فلسفة الصيام فى الإسلام، أنه فرض فى شهر شعبان من العام الثانى للهجرة النبوية الشريفة، أى قبل الممارسة الفعلية للفريضة بشهر واحد أو أقل، فى حين أن غزوة بدر وقعت هي الأخرى في اليوم السابع عشر من رمضان من العام نفسه، ولا شك أن توافق الحدثين لم يأت اعتباطا ولا خبط عشواء، فكل شيء في كون الله تعالى له حكمة وخُلق بقدر، فقال تعالى “إنا كل شيء خلقناه بقدر” فغزوة بدر هى أول حرب كبرى حقيقية بين المسلمين والمشركين، وقد سماها الله تعالى يوم الفرقان لما كان لها من أثر كبير في الأحداث فيما بعد من جانب، ومن جانب آخر لما كان لها من أثر عميق في نفوس المسلمين والمشركين معا.
فالمسلمون شعروا بكيانهم وقوة دولتهم التى أنشئت لتوها في المدينة، والتى لم يمر على إنشائها سوى أقل من عامين، والمشركون كذلك شعروا بمدى شوكة المسلمين وقوتهم، وأن هناك قوة خفية تؤيدهم، وتعينهم وتساندهم، وخصوصا والمسلمون قليلو العدد والعدة والعتاد، والعجب أن تقع هذه المقتلة العظيمة بين الفريقين والتى راح ضحيتها حوالي سبعون من صناديد وكفار قريش، والعجب أن يحدث كل ذلك في شهر يقضيه المسلمون صائمين قائمين، راكعين ساجدين، بل الأعجب أن هذا الصيام كان أول صيام فريضة يؤديها المسلمون في حياتهم، وهم القوم الذين لم يعتادوا الصيام، بل لم يعرفوه من قبل، فالعرب الوثنيون لم يكن يخطر ببالهم أن هناك من العبادات ما يمتنع مؤديها عن الطعام والشراب طيلة اثنتي عشرة ساعة تقريبا فى الحر الشديد الذى كانوا يعانون منه أشد المعاناة.
حتى إن كوبا من الماء البارد عندهم كان نعمة تستوجب الشكر والامتنان، وكان الصيام معروفا عند النصارى واليهود الذين كانوا بالمدينة، ولكن صورته كانت مختلفة عن صيام المسلمين، أما العرب الوثنيون فلم يكونوا يدرون عنه، ولا تعودوا على ممارسته، وربما كان من المسلمين من لم يصم من قبل، أو صام أياما قليلة من النوافل التى كان يحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، على سبيل الاستحباب لا الوجوب، أما الصيام مع الحرب فهذه كانت حالة جديدة على المسلمين، لم يعهدوها، ولكن يشاء الله عز وجل أن يتوافق الصيام مع القتال، بل وينتصر المسلمون ويلحقوا بالمشركين هزيمة نكراء تتحدث عنها الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث ضرب فيها المسلمون أروع الأمثلة في الصبر والثبات والاستسلام لأمر الله تعالى،
وإن من الأمور العجيبة أيضا أن دواوين السنة وكتب الأخبار لم تنقل إلينا ولو خبرا عن حالة واحدة من التأفف أو الانزعاج من قتال القوم أو الخروج للاستيلاء على عير قريش بسبب الصيام والحر والعطش، غاية ما فى الأمر أن البعض قد مال إلى عدم القتال بسبب عدم استعدادهم بالسلاح المناسب للقتال، فالقوم خرجوا لاسترداد ما استولى عليه المشركون من أموال المسلمين أثناء الهجرة وفقط، أما القتال فلم يعدوا له عدته، وإن هذه الغزوة العظيمة لهي حالة تستحق الدراسة، بل إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجديرون بتلك الدراسة والتأمل، كيف استطاعوا أن يحققوا هذه المعادلة الصعبة، ما بين صيام وعطش يمارسونه لأول مرة وبين حرب ضروس جمعت لها قريش حدها وحديدها من كل حدب وصوب، ولكنه الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فإن شهر رمضان لم يشرعه الله عز وجل للقعود والتخلف عن ركب الجهاد والحركة والدعوة إلى الله، ولم يشرعه كذلك للتحجج به عن التفلت من الالتزامات الوظيفية أو الاجتماعية، بل إنه شهر نشاط وحركة، وفتوحات وانتصارات، فغالبية الهزائم التي لحقت بالشرك وأهله على أيدى المسلمين كانت في شهر رمضان المعظم، وهذا كاف لأن ينفض عنا غبار الكسل والدعة والخمول، ولكننا مع الأسف نلحظ في المسلمين حالة غريبة عليهم من تضييع الحقوق في رمضان، والتملص من أداء الواجبات، والهروب من المسؤوليات، بحجة الصيام، ومقولة “إني امرؤ صائم” صارت فزّاعة يشهرها كل طالب أو موظف أو رب أسرة أو داعية متكاسل يود الهروب مما هو مكلف بأدائه من حق دراسته أو وظيفته أو أسرته أو دعوته، وتحول شهر الصيام في حس الكثيرين من شهر انتصارات إلى شهر انتكاسات، يُنام نهاره دفعا للشعور بالجوع والعطش، ويسهر ليله على المعاصي استعدادا للنوم فى النهار.